منبر الجمعة: “الموضوع : بر الوالدين”

الدكتور سمير الوصبي : أستاذ وخطيب بمسجد الهدى مدينة اليوسفية

قال تعالى:
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا

إن أول منعم على العبد هو الله وثاني منعم هما الوالدين : الأم والأب. وان الله كما أمر بشكره أمر بشكر الوالدين وكما أمر بعبادته وحده مقابل إنعامه أمر بالإحسان بالوالدين مقابل إحسانهما قال تعالى:” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”. ولا أحسب أن عاقلا يجهل إحسان الوالدين لولدهما انه إحسان يتمثل في النطفة التي تكون منها وهي من ماء كل منهما وهذا إحسان وإنعام على الولد في أصل خلقه، ووجوده ثم تواصل هذا الإحسان في حمل الأم له تسعة أشهر وهي لا تكل ولا تمل، وما تعانيه من مرض الوحم في أيامه الأولى، ثم ما تعانيه في الأشهر الثلاثة قبل الولادة من إعياء وتعب، ثم ما تكابده وتقاسيه من آلام المخاض والطلق والرضاع والتربية، كل هذا من إحسان الأم، أما الأب فهو القيم على البت والساعي إلى كسب قوت أولاده. إن هذا الإحسان العظيم هو الذي اوجب الله به شكر الوالدين وقرنه بشكره.
قال ذو النون ثلاثة من أعلام البر: بر الوالدين بحسن الطاعة لهما ولين الجناح وبذل المال؛ وبر الولد بحسن التأديب له والدلالة على الخير؛وبر جميع الناس بطلاقة الوجه وحسن العشرة.
واسم البر جامع لأنواع الخير كلها روي عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أي العمل أحب إلى الله تعالى قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله ” ويروى أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام:” إن من بر والديه وعقني كتبته برا .. ومن برني وعق والديه كتبته عاقا”، الحياة تنقضي وعلى المرء استغلال لحظة وجوده مع والديه ولعلم إن النظر إليهما هو عبادة،
عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه قال:” النظر إلى الوالدين عبادة، والنظر في المصحف عبادة، والنظر إلى أخيك حبا فيه عبادة”.
وحقيقة الإحسان هي المراقبة مراقبة حال والديه بظاهرك وباطنك في حال صحتهما وسقمهما، وغناهما وفقرهما، وحياتهما وموتهما؛ فيأتمر بما أمراه ما لم يكن معصية، وينتهي عما نهياه عنه.
قال ابن عباس يريد الله سبحانه وتعالى بقوله: ” وبالوالدين إحسانا”، البر مع اللطف ولين الجانب ولا يغلظ لهما الجواب ولا يحد النظر، ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا.
وتدبر آية الإسراء فإنها أجمع لبر الوالدين والإحسان بهما قال تعالى:” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفظ لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا” ، فبعدما قرن الله عزوجل بين وجوب عبادته وتوحيده بطاعة الوالدين بالقول “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”.

وقوله تعالى:” إما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما” أنهما يبلغان إلى حالة من الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر، أيْ إحْسانًا بالوالدين ، ولا يخفى على كلّ ذي فهْمٍ أنّ هذه الباء تفيد الإلْصاق ، وقد اسْتَنْبطَ علماء التفسير ، من حرْف الباء أنَّ الإحسان للوالدين لا يُقْبَلُ إلا إذا كان شخْصِيًّا وبالذات من ابنهما لا عن طريق الهاتف ، ولا عن طريق الواسطة ، ولا عن طريق الرسالة ، لا بدّ من أن تحضر إليه ، ولا بدّ أن تقدِّمَ إليه الخِدْمةَ بِنَفْسِكَ ، لا تُقْبَلُ إلا أن يكون هذا شخصيًّا منك .

واعلم انه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء: اثنان من النواهي وثلاث من الأوامر.
النهي الأول: ” فلا تقل لهما أف” يتأفف بقول أف والأفف الضجر، واصلها عندما يسقط عليك التراب على ثوبك نفخت فيه لتزيله فالصوت الحاصل عن تلك النفخة هو قولك أف فتقال عند كل مكروه فقال احد المفسرين :” لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك”.
النهي الثاني: “ولا تنهرهما” نهره ونتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال تعالى :” وأما السائل فلا تنهر” أي لا تقابلهما بكلام فيه قصاوة.
الأمر الأول:” وقل لهما قولا كريما” خاطبهما بكلام فيه أمارات التعظيم والاحترام وعن عطاء انه قال هو أن تتكلم معهما بشرط ألا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك وذلك لان هذين الفعلين ينفيان القول الكريم وفسره عمر بن الخطاب هو أن يقول يا أبتاه ويا أماه.
الأمر الثاني: ” واخفظ لهما جناح الذل من الرحمة” فالمقصود المبالغة في التواضع وخفض الجناح في تقريره أن الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه لدلالة على لتعالي وإذا خفض جناحيه كناية على فعل التواضع ويخفضها لضم فراخه إليه للتربية فلهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية فكأنه قال للولد اكفل والديك بان تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك.
الأمر الثالث: وقول رب ارحمهما كما ربياني صغيرا” انه تعالى لم يقتصر على تعليم البر بالوالدين على تعليم الأفعال بل أضاف إليه تعليم الأقوال، وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول:” رب ارحمهما” ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنا ثم يقول ” كما ربياني: يعني رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي.
لكن هل البر بالوالدين ينتهي بوفاتهما عن أبي أسيد رضي الله عنه قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقي من بر والدي من بعد موتهما شيء ابرهما به؟ قال نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقيهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما فهذا الذي بقي عليك” هذا هو الود ” الود يتوارث، والعداوة كذلك” فمن الواجب تجاه الوالدين بعد احدهما أو كلاهما فعل أمور هي من البر.
أولهما: الصلاة عليهما؛ والمراد هنا هو الدعاء لهما بالرحمة، سئل سفيان بن عيينة كم يدعو الإنسان لوالديه أفي اليوم مرة، أو في الشهر مرة، أو في السنة مرة. فقال نرجوا أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر الصلوات.
ثانيهما: الاستغفار لهما؛ هو تخصيص للأمر الأول وهو الدعاء بطلب المغفرة لهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن العبد ليموت والداه أو احدهما وانه لهما لعاق ولا يزال يدعوا لهما ويستغفر حتى يكتبه الله بارا” وقال عليه السلام:” وما الميت في القبر إلا كالغريق المتغوت ينتظر دعوة تلحقه من أب و أم و أخ وصديق، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها، وان الله عزوجل ليدخل على القبور من دعاء أهل الأرض أمثال الجبال وان هديت الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم” هذا الابن هو اسْتمرار إلى الأبد، اسْتِمرار لك ، وأنت في الجنّة تُرفع منزلتك ، فيقول يا ربّ أنى لي هذا ؟ فيُقال : باستغفار ولدك لك !
ثالثها: إنفاذ عهدهما؛ يراد تنفيذ وصيتهما وصية برعاية من يحبون أو وصية لها حق عيني بان يوصوا بمال لغير وارث
رابعها: إكرام صديقهما ، فهذا ابن عمر يلقى رجلاً من الأعراب بطريق مكة فيسلّم عليه عبد الله ويحمله على حمار كان يركبه ويعطيه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير! فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وِدًا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)
خامسها: صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما؛ بصلة الأقارب من ذوي الأرحام..
اسمعوا ما قال الإمام الشافعي :” انك أيها الإنسان تستطيع أن تؤدي دينك شيئا فشيئا لكنك لا تستطيع أن تؤدي دين الوالدين”
وليعلم الإنسان أن الأم لما علمتم من مكابدتها الشاقة ومقاساتها الأتعاب في الحمل والوضع والرضاع والتربية أحق بالبر من الوالد بنسبة الثلثين فحين سئل الرسول الكريم عن أحق الناس بحسن الصحبة أجاب السائل بقوله أمك ثلاث مرات
وفي الصحيح عن أبي هريرة من أحقّ الناس بحُسن صحابتي قال : أمّك ثلاث فحقُّ الأمّ ثلاث أمثال حقّ الأب، وسئلصلى الله عليه وسلّم من أعظم الناس حقًّا على الرجل ؟ فقال : أمّهُ ، فلما سئل من أعظم الناس حقّا على المرأة ؟ قال : زوجها
وسئل عليه السلام أيهما أسرع إجابة الأم أم الأب فقال:” الوالدة أسرع إجابة؛ فقيل يا رسول الله ولم ذلك، قال هي ارحم ودعوة الرحيم لا تسقط”. عن عائشة رضي الله عنها قالت دخلت علي امرأة ومعها بنتان لها تسال، فلم تجد عندي شيئا غير ثمرة واحدة فأعطيتها إياها فقسمتها بين بنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي فأخبرته فقال من ابتلي من هذه البنات شيء فأحسن إليهما كن له سترا من النار”.
ولنعطي نماذج من اللذين بروا قالت عائشة رضي الله عنه رجلان من أصحاب رسول الله كانا ابر من في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان. أما عثمان بن عفان رضي الله عنه فانه قال ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت يعني ارفع عيني إلى وجهها من شدة الحياء، أما حارثة فانه كان يطعم أمه بيده.
وقد روَتْ الكُتب أنّ رجلاً خاصمّ امرأتهُ على ولدٍ لهما ، أيّهما أحقّ بِحَضانته ، فقالتْ المرأة للقاضي : أنا أحقّ به لأنّني حملْتهُ تسْعة أشهرٍ ثمّ وضَعْتهُ ، ثمّ رضّعته إلى أن ترعْرع بين أحضاني ، فقال الرجل : أيها القاضي أنا حملْتُ قبل أن تحملهُ، ووضعْتُهُ قبل أن تضعهُ ، فإن كان لها بعض الحقّ فيه ، فَلِيَ الحقّ كلّه أو جلّه ، فقال القاضي : أجيبي أيّتها المرأة قالت : لئِنْ حَمَلَهُ خِفًّا ، فقد حمَلْتُهُ ثقلاً ، ولئِنْ وضَعَهُ شهوةً فقد وضَعْتهُ كُرْهًا ، فقال القاضي : اِدْفَع إلى المرأة غلامها ودَعْني من سَجْعك رجلٌ
جاء النبيَّ عليه الصلاة والسلام وقال: (( إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. قال: “هل بقى من والديك أحد ؟ قال: أمي. قال قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد
وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يستأذنهُ في الجهاد فقال : أحَيٌّ والدك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهِد ، فَبِرُّ الوالدين يعْدِلُ الجهاد في سبيل الله ، ”
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهذا حيوة بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلّم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم ـ يا حيوة ـ فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم
وهذا ابن عون نادته أمه فأجابها فَعَلا صوته صوتَها فأعتق رقبتين يرى أنهما كفارة لما فعل.
وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها.
وقال محمد بن المنكدر بات أخي عمر يصلي وبتّ أغمز قدم أمي وما أحبّ أن ليلته بليلتي.
أيها الإخوة، إن شأن الوالدين عظيم، فمهما اجتهد الإنسان في برهما فلن يبلغ جزاءهما، قال أبو موسى الأشعري : شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول: أني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا وبزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان. وعن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي أمًا بلغت الكبر ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأنا أقوم بتوضئتها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين.
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟! ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال مِن مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)). فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إليّ. وعن أصبغ بن زيد، قال: إنما منع أويسًا أن يَقدم على النبي برّه بأمه
فضل الاب: وذكروا أن رجلاً ضرب بمال لم يؤده فلم يعطه، فأتي بولده فضرِب، فجعل الرجل يبكي بكاء الطفل فقالوا له: ما لك؟! فقال: ضرِب جلدي فصبرت، وضرِبَت كبدي فلم أصبر. هكذا الأب أيها المسلم، يجوع لتشبع، ويعرى لتَلْبَس، ويشقى لتسعد، ويتعب لترتاح، إذا مرضت داواك، وإذا بكيت أرضاك، وإذا ضحكت فرح، وإذا نهضت أتبعك النظر، وإذا جلست أتبعك الدعاء. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما مات أبي عبد الله ما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه.
وكان الفضل بن يحيا يُدْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل فإذا طلع الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به.
يروى أن نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، سأل ربه جل جلاله قائلا: يا رب أرني من رفيقي في الجنة ؟ فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه وقال : يا موسى أول رجل يمر عليك من هذا الطريق فهو رفيقك في الجنة، ومر عليه رجل وسار موسى وراءه يريد أن يفهم ويعلم ماذا يصنع هذا الرجل حتى أعطي رفقة الأنبياء في الجنة؟ وإذا بالرجل يدخل بيتا ويجلس أمام امرأة عجوز، ويخرج قطعا من اللحم فيشويها ويضعها في فم العجوز ويسقيها الماء ويخرج.فسأله موسى: من هذه بحق الله عليك؟ والرجل لا يعلم من السائل؟ فقال له : إنها أمي. فقال موسى: أو ما تدعو لك؟ فقال الرجل: إنها تدعو لي بدعوة واحدة لا تغيرها. فقال موسى: فماذا تقول في دعوتها؟ فقال الرجل: إنها تدعو لي قائلة: اللهم اجعل إبني مع موسى بن عمران في الجنة. فقال له الكليم موسى عليه السلام:أبشر فقد استجاب الله دعاءها وأنا موسى بن عمران، وهذا ببركة دعوة أمه، لأن دعوة الوالدين مستجابة.
ذكر أن أميه ابن اسكر الكنانى عنده ولد اسمه كلاب كان شابا صالحا حريصا يوم من الأيام كان كلاب يمشى في طرقات المدينة فلقي طلحه ابن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما عن اى الأعمال أفضل في الإسلام قالا: الجهاد في سبيل الله فذهب إلى عمر بن الخطاب فقال: ارسلنى إلى الثغور والثغور هي مراكز تجعل حول بلاد الإسلام يرابط بها المجاهدون لأجل أن يردوا الأعداء لو هجموا على بلاد المسلمين قال عمر بن الخطاب: أعندك والدان؟؟ قال: نعــــم قال: اذهب واستأذنهما فذهب إلى أمه وأبيه فجعل يبكى ويقبل رأس أبيه فأذن له على مضض اقبل إلى عمر بن الخطاب
فقال له: إن أبواه قد أذنا له .. فأرسله عمر إلى الثغور فمرت الأيام واشتد شوق الوالد إلى ولده فقد كان يساعده في وضوئه يقرب إليه طعامه يمشى معه في حاجاته يؤانسه في مجلسه فصار البكاء رفيقه في ليله ونهاره؛ فجلس أميه بن اسكر تحت شجره فرأى حمامه تأتى إلى أفراخها وتطعمهم فجعل ينظر إليهم ثم قال لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو عقلا الكتابا تركت أباك مرعشة يداه وأمك لاتسيغ لها شرابا طويلا شوقه يبكيك فردا على حزن ولا يرجوا الإياب إذا هتفت حمامه بطن وجعلى بيضاتها ذكرا كلابا فانك ولتمس الأجر بعدى كباغ الماء يتبع السرابا
ثم اشتد حزنه على ولده حتى أصابه ما أصاب يعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم فعمى فلما عمى اشتد عليه البلاء وصار يتذكر ولده ويراه بين يديه في كل حين فاخذ من شدة ما فى قلبه يريد أن يدعوا على ولده لكن نفسه لم تطاوعه فاخذ يدعوا على عمر بن الخطاب ويقول في شعره/
أعادل قد عدلت بغير علم وما تدرى عادل ما ألاقى فلا والله ما بليتى وجدي ولا شفقي عليه ولا اشتياقي فلو فلق الفؤاد شديد وجد لهم سواد قلبي بانطلاق ثم قال/سأستعدى على الفاروق ربا له دفع الحجيج إلى بساق وادعوا الله مجتهدا عليه ببطن الاخشبين إلى زقاق إن الفاروق لم يردد كلابا على شيخين هامهما بواق؛ فسمعه احد من أصحابه فقال يا أبا كلاب تذهب معي في حاجه ؟؟
قال: إلى أين” قال: اذهب معي فأخذه بيده وهو الأعمى يسوقه حتى ذهب إلى المسجد واقبل إلى حلقه عمر بن الخطاب وأجلسه فيها والشيخ لا يدرى انه في مجلس عمر بن الخطاب ثم قال له صاحبه يا أبا كلاب… قال: نعـــم قال: أنشدنا من أشعارك ولشدة تعلقه بولده أول ما تبادر إلى ذهنه الأشعار التي في ولده فقال:/ سأستعدى على الفاروق ربا له دفع الحجيج إلى بساق وادعوا الله مجتهدا عليه
ببطن الاخشبين إلى زقاق إن الفاروق لم يردد كلابا على شيخين هامهما بواق فقال: عمر من هذا؟؟
قال: هذا أميــه قال: ما خبره؟؟ قال: أرسلت ولده إلى الثغور قال: الم يأذن؟؟ قال: أذن على مضض فقام عمر بن الخطاب إلى ديوانه فأرسل مباشره إلى الثغور (أن ابعثوا إلى كلاب ابن أميه ابن اسكر الكنانى على دواب البريد/أن الخيل التي تقطع مسافة أسبوع تقطعها هذه الدواب في يوم أو نصف يوم…
دخل كلاب على عمر بن الخطاب فقال: نعم يا أمير المؤمنين قال: اجلس يا كلاب فجلس قال عمر :ما بلغك برك بابيك؟؟ قال: والله ما اعلم شئ يحبه أبى إلا فعلته قبل أن يطلبه منى ولا اعلم شئ يبغضه أبى إلا تركته قبل أن ينهاني عنه قال: زدنـــي قال : يا أمير المؤمنين والله انى لا الوه جهد اى لا اقصر معه في بر أو إحسان.
قال : زدنـــي قال: انى إذا أردت أن احلب له من الناقة آتى بالليل إلى أغزر ناقة في الإبل ثم أنيخها وأعقلها حتى لا تتحرك طوال الليل ثم استيقظ قبيل الفجر واتى إليها فابعثها ثم امضي إلى البئر فاستخرج منه الماء البارد واتى الناقة واغسل ضرعها في الماء حتى يبرد اللبن ثم احلبه وأعطيه أبى ليشرب قال عمر : عجبا كل هذا لأجل شربه لبن…. قال: وما سواه أعظم يا امير المؤمنين…. قال : افعل كما كنت تفعل…. قال كلاب : اذهب إلى اهلى يا امير المؤمنين…. قال: أول شئ اعمل لي لبن فمضى إلى الناقة فحلب اللبن ففعل معه كما يفل مع أباه فأعطاه إلى عمر بن الخطاب وقال عمر : خذوا كلاب فادخلوه في غرفه وأغلقوا عليه الباب فأرسل عمر إلى الشيخ فاقبل الشيخ يجر خطاه قد عظم همه واشتد بكاؤه وطال شوقه حتى وقف أمام أمير المؤمنين
فقال عمر : ما بقى من لذاتك في الدنيا؟ قال: ما بقى لي لـــذة…. قال فما تشته؟ قال اشتهى المـــــــــــــوت
قال أقسمت عليك أن تخبرني بأعظم لذة تتمناها في الدنيا؟ قال لا تقســــــــــــم …. قال أقسمت عليك اخبرني؟
قال أتمنى لو أن ولدى كلاب بين يدي أضمه ضمه واشمه شمه قبل أن أموت قال سيسرك الله بولدك خذ هذا اللبن تتقوى به قال لا حاجة لي به قال أقسمت عليك أن تشرب فاخذ اللبن فلما قربه أميه إلى فيه بكى وبكى؛ فقال والله انى لأشم في هذا اللبن رائحة يدي ولدي كلاب فبكى عمر وجعل ينتفض من مكانه وبكى وبكى ثم قال افتحوا الباب لكلاب الأب لا يدرى هو سمع اسم كلاب أو لم يسمعه وبدا يتلفت يمينا ويسارا اقبل الولد إلى أبيه فضمه أبوه إليه حتى كأنهما قد خلطا في جسد واحد/ لو أحظرت قوة الدنيا ما استطعت إلا أن يتقطعا /جعل الأب يضم ولده تارة ويشمه تارة ويقبله تارة بكى عمر وقال / يا كلاب إن كنت تريد الجنة فتحت قدمي هذا وتحت قدمي العجوز. اللهم أعنا على بر والدينا يرحم الله والدي وامهات واباء الناس جميعا.

Comments (0)
Add Comment