قصة قصيرة بائع العطور المزيفة !
بقلم مصطفى الحناوي
توالت السنوات العجاف شح المياه ونذرتها وغضب السماء الكئيبة و المتجهمة فجف الضرع وكثرت الأوبئة والأمراض فحلت الإنتكاسة وخيبة الأمل لدى ساكنة القرية التي سئم أهاليها المكوث بها بعدما عمر الجفاف سبعة أعوام متتالية وكثير من الفلاحين الصغار إبتاعوا أراضيهم ورحلوا الى أحزمة البؤس بالمدن ، وكان الجيلالي في ريعان شبابه مع والده الفلاح يشتغلا على تلك الضيعة الفلاحية في زراعات موسمية بنواحي مدينة بني ملال تلك القرية التي نال منها الجفاف ومن آهاليها والكل هاجر بحثا عن بديل يكفل معيشه اليومي في ظل أوضاع متردية مشحونة بالتذمر والسخط على الواقع وما خلفته سنوات الجفاف المتتالية من إنتكاسات على كل الفلاحين الصغار ، والد الجيلالي المسمى خربوش الطاعن في السن أخذ زوجته الثانية والتي تصغره سنا كان قد تزوجها بعد وفاة والدة الجيلالي فأنجب منها بنتين وولد فرد أخذهم معه لينزح بهم في هامش بمدينة الدارالبيضاء وفي أحزمة البؤس ( مدن الصفيح ) وبما أن زوجة خربوش تكره ربيبها الجيلاني أرغمت زوجها على طرد الجيلالي من البيت الذي إقتناه حديثا وفي عز الجفاف كان الجيلاني يبيت الليل مفترشا الأرض ومتلحفا السماء لا غطاء يدثره من برد الليل ولا سقف يقيه حر النهار ، هكذا ظل الجيلالي على حاله حتى تعاطفت معه سيدة عجوز فأخذته لبيتها وإعتنت به كأحد من أفراد عائلتها منحته سريرها لينام فيه كل ليلة ، وتعد له الوجبات الغذائية من فطور في الصباح وغذاء وعشاء ، لقد إندمج مع المحيط العام لساكنة مدن الصفيح وكان في كل مساء يحتسي الخمرة حثى الثمالة ويبدأ يرقص على نغمات شعبية منبعثة من آلة تسجيل ( سجالة) وعندما يجن الليل يشتد جنون الجيلالي ويرسل أصوات قهقهاته التي تزعج الجيران وهم نيام وحدث غير ما مرة خرجوا إليه بالعصي والهراوات يشبعونه ضربا ومع ذلك يعاود الكرات مرات حتى إعتاد السكان أن يقبلوا بسلوكياته الشاذة ، لم يكن الجيلالي إلا ضحية الجفاف وقلة ذات اليد ، لقد كان المسكين يعين والده خربوش على فلاحة الضيعة وهو طفل يجر المحراث على الحمار الوحيد لحرث الضيعة وزرعها بحبوب موسمية لكن سواعده الذابلة خانته في الإشتغال مع عمال البناء ، فلجأ إلى حيلة تزييف العطور ، كيف ذلك ؟ في كل صباح باكر يلتجأ الى سوق ( الجوطية ) حيث الملابس البالية وكل ما هو قديم معرضا من طرف الباعة كان الجيلالي همه الوحيد شراء القارورات في مختلف الأحجام وبعد إقتناءها يعود للكوخ القصديري ويجلس أمام بابه ويبدأ في صناعة العطور المزيفة يأخذ الماء مع الزعفران ويضعه داخل القارورات ويحكم إغلاقها بمادة الفلين ويقوم بطلائها برائحة قوية نفاثة ذات جاذبية قوية وبعدها يرتدي معطافه ويخرج الشارع العام بحيث يضع القارورات في جيب معطفه ويتأبط واحدة وعندما يمر المارة يعترض طريقهم مظهرا لهم القارورة وكانت لازمته التي يرددها على مسامع المارة لإستقطابهم حيث يقول لهم ( هاهو العطر الجميل من المرسى ) وكان يقع بضحياه بهذه الكيفية وكلما سأله ضحية من ضحاياه عن العطر وثمنه كان يأخذ القارورة ويضع رأسها على أنوف الزبائن موهمهم أنها عطر من المرسى ! !
وحدث ذات مرة أن الجيلالي يتأبط قارورة مزورة تحت إبطه داخل سوق القريعة بدب السلطان فصادفته سيدة فأخرج لها القارورة مدعيا أنها عطرا وبما أنه كان يطلي رأس القارورة بروح العطر كانت الرائحة قوية تزكم الأنف سقطت السيدة ضحيته لكنها لما دخلت بيتها وجدت زوجها يرتدي زيا عسكريا فقامت برشه ولما إنتهت من عملية الرش إنتبه زوجها إلى ملابسه ذات اللون الكاكي فوجدها عبارة عن بقع صفراء تغطي ملابسه فخاطب زوجته متهكما عليها قائلا : من أين لك بهذا العطر ؟ فأدركت أنها ضحية بائع العطور المزيفة وهو بائع متجول يجول في أسواق الدارالبيضاء ، إشتد غضب الزوج فأمرها بالرجوع معه إلى السوق والبحث عن البائع فخرجا ليبحثا عليه في السوق ، وبينما الجيلالي يتأبط قارورة آخرى ولم يفطن أن السيدة التي إبتاعها العطر المزيف جاءت ومعها زوجها الذي أحكم قبضته على عنق الجيلاني فلكمه بضربة قوية على مستوى العين وعالجه بضربة رأس فتحطمت أسنانه الأمامية وما هي إلا عشرة دقائق حتى حضر الأمن الوطني على سيارة (الدجيب ) فأخذوه الى مخفر الشرطة فحرروا له محضرا مع الاستماع لضحيته ، وفي اليوم الموالي تمت إحالته على القاضي فكان جزاءه السجن .
قضى الجيلالي ثمانية أشهر داخل السجن وبعد خروجه إمتهن شراء النخالة من المطاحن لكن كان إدمانه على الخمور يتطلب منه مصاريف كثيرة مما جعله يعود لصناعة العطور المزيفة ، وكان في كل مرة يدخل السجن ويعاود الكرة سيرا على عاداته حتى أصابه الجنون فشحب وجهه وأصابه الكبر وترهل جسمه ولم يعد يقوى على المشي يجيب الشارع ذهابا وإيابا مستعينا بعكازته حتى صدمته سيارة فأردته قتيلا ! !