سلسلة نظرية :السياسة الشرعية عبر تحليل الخطاب الديني من خلال القيم الاسلامية ” العدل” .

الدكتور سمير الوصبي : تخصص الفكر الإسلامي والسياسة الشرعية

 

إن قضية العدل في الإسلام قضية مهمة لا على مستوى الافراد والجماعات وعلى مستوى قضية الاستخلاف في الارض وعمارتها قصد اصلاحها، والعدل شعار محمد صلى الله عليه وسلم وشعار أبي بكر وشعار عمر والخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم وأرضاهم، ويقول سبحانه: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:29] ويقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90] لماذا كل هذه الأوامر؟ للوصول إلى هذه الحقيقة: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25] ليقوم الناس، لا ليقعد الناس، أي يسود العدل في معاملاتهم لِيَقُومَ النَّاسُ [الحديد:25] أي: بماذا؟ قال: بِالْقِسْطِ [الحديد:25] بالعدل، وهكذا تكون القيادات قدوة للقاعدة فيقوم الناس بالقسط. ماذا كانت أقوال الصالحين من حكام المسلمين أمام هذه الأوامر من رب العالمين؟ وَقَدْ وردت آيات وأحاديث تحذر من الجور فِي القضاء من ذلك قوله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ . [ص:26]
عدل الله في الدنيا للانسان انه اعطاه عقلا ونعما وارسل رسلا فالله لا يعذب قوما لم يبعث فيهم رسولا قال تعالى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا .[الاسراء: من الآية 14] هذا عدل الله مع الانسان في الدنيا، اما الاخرة يبدا مع القبر باعتباره اول منازل الاخرة اقامة الشهود بسؤال الملائكة له، الحشر، تطاير الكتب، الميزان ، الصراط الجنة او النار.
فتعلم الانبياء والرسل العدل من ربهم فكان الرسول هو إمام العادلين محمد صلى الله عليه وسلم فاسمعوا ماذا يقول: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها) وفي لحظاته الأخيرة وهو يودع دولته وحكومته وأمته يختمها بالعدل قائلاً في آخر خطبة يخطبها صلى الله عليه وسلم في الناس: (أيها الناس! من جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قِبلي فإنها ليست من شأني، ألا إن أحبكم إلي من أخذ مني حقاً إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس) هكذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتعلم الخلفاء من رسولهم. أما خليفته الراشد أبو بكر الصديق فماذا كان يقول؟ استمعوا إليه في خطبته رضي الله عنه وأرضاه وهو يقول للمسلمين: [أُمِّرت عليكم ولست بخيركم -مع أنه كان خير الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم- أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم].القاعدة هنا في هذه المرحلة هي التواضع والطاعة بمرجعية فكرية محددة وموحدة لتفادي الفرقة ولا ادل على ذلك هو محاربته رضي الله عنه لأهل الردة رغم معارضة مستشاره الاول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليتأكد بعدها لمستشاره صحة الموقف وسدادة الراي لأميره؛ فعلم ان الله اجرى الحق على راي ابا بكر رصي الله عنه . فساد العدل وفي موقف نعرضه يتبين مستوى العدل في العهد الاول للدولة الاسلامية عين أبا بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لَمْ يختصم إليه اثنان فطلب من أبو بكر إعفاءه من القضاء فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟
فقال له عمر: لا يا خليفة رسول الله ولكن لا حجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل مِنْهُمْ مَا له من حق فلم يطلب أكثر مِنْه وما عليه من واجب فلم يقصر فِي أدائه، أحب كل مِنْهُمْ لأخيه ما يحب لنفسه وإذا غاب أحدهم تفقدوه وإذا مرض عادوه إذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيهم يختصمون وقال تعالى: ” وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” هذا الكلام هو دسترة للبنات العدل الاجتماعي والذي على الناس افرادا او جماعات ان يلتزموا به معرفة الحقوق المتبادلة واحترامها الوسيلة لسيادة العدل السياسي والذي نقصد به ان السلطة السياسية تخلق الطمأنينة والأمن لنفسها ولرعيتها .
ويأتي الخليفة الراشد عمر، فماذا يقول؟ [أيها الناس! القوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له].هنا نستطلع ونستكشف امرا مهما في مسألة العدل هو الانتقال الى التدقيق والتمحيص الجزئي والتفصيلي في دراسة قضايا المواطنين والرعايا فبعد التأصيل في عهد النبوة والخليفة الاول ابو بكر جاءت مرحلة التقعيد مع عمر والذي يعني مباشرة قضايا المواطنين عن طريق الدسترة الان استمع الى هذه القصة مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الناس متسترا ليتعرف أخبار رعيته فرأى عجوزا فسلم عليها وقال لها ما فعل عمر؟ قالت : لا جزاه الله عني خيرا . قال : ولم ؟ ، قالت : لأنه – والله – ما نالني من عطائه منذ ولي أمر المؤمنين دينار ولا درهم فقال لها : وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ قالت : سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحدا يلي عمل الناس ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر ثم قال: وا عمراه ! كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر. ثم قال لها: يا أمة الله ، بكم تبيعني ظلامتك من عمر؟ فإني أرحمه من النار قالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله
فقال لها : لست بهزاء…. ولم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارا
وبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا : السلام عليك يا أمير المؤمنين. فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت : واسوأتاه أشتمت أمير المؤمنين في وجهه ! فقال لها عمر : لا بأس عليك رحمك الله، ثم طلب رقعة يكتب فيها فلم يجد ، فقطع قطعة من ثوبه وكتب فيها
” بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا ، فما تدعى عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر منه بريء ” وشهد على ذلك علي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود ورفع عمر الكتاب إلى ولده وقال” إذا أنا مت فاجعله في كفني ، ألقى به ربي” من هنا نفهم ان العدل هو التحري والبحث المضنى لإحقاقه بين الناس وليس كلاما وشعارات بل تطبيق وممارسات. ومن يقوم على اقراره يجب عليه ان يبتعد عن الشبهات.
كان أعرابيٌ يهدي عمر بن الخطاب كل أسبوع فخذ جزور، فصارت خصومة بين الأعرابي ورجل، فدخل على عمرفي محكمة العدل وقال: يا أمير المؤمنين! افصل بيني وبين هذا كما يفصل فخذ الجزور. عند ذلك أعلنها عمر : أيها الناس! لا تقبلوا الهدية، إنها لمحمد هدية وإنها لكم رشوة، ثم أخذ يحاسب عماله بعد ذلك على الهدية.
فسياق العدل ومسالة تثبيته لتفادي الجور والطغيان والظلم، ولأجل خطورة الظلم كان الصالحون يخشونه على أنفسهم، ويبتعد الكثير منهم عن القضاء؛ فرفض كثيرٌ من العلماء تولي القضاء خشية أن يظلم أحد الخصمين، فيبوء بالإثم والانتقام من الله تعالى، مع أنه ربما يكون مجتهداً مخطئاً، فقد أعرض كثيرٌ من الصالحين والعلماء عن تولي القضاء لأجل خشية الظلم؛ لأنه يخاف أن يظلم، ويعلم ما هي عقوبة الظالم في الدنيا والآخرة. وعن أنسٍ قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ارتفعت الأسعار- فقالوا: يا رسول الله! سَعِّرْ لنا -افرض تسعيرةً للبضائع- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمظلمة في دمٍ ولا مال)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” مَا من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور” . رواه البزار والطبراني فِي الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح.
وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” القضاة ثلاثة واحد فِي الجنة واثنان فِي النار فأما الذي فِي الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فِي الحكم فهو فِي النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فِي النار “. رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. قوله تعالى: ” وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” ؛ فأمر بالعدل ونبه على أن الحاكم المقسط ينال خيرًا عظيمًا، هو محبة الله للعبد، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة فِي الدنيا والعيشة الراضية فِي الآخرة. ومن الأحاديث الدالة على مَا يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله تعالى مَا ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فِي حكمهم وأهليهم وما ولوا”. رواه مسلم والنسائي.
ولينظر المسلم -أيها الإخوة- في ميتة المظلوم، وبعض الناس يحتقرها، لكنها عظيمة عند الله، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما امرأةٌ فيمن كان قبلكم تُرضع ابناً لها، إذ مر بها فارسٌ متكبرٌ عليه شارةٌ حسنة، فقالت المرأة: الله لا تمت ابني هذا حتى أراه مثل هذا الفارس على مثل هذا الفرس، قال: فترك الصبي الثدي، ثم قال: اللهم لا تجعلني مثل هذا الفارس، قال: ثم عاد إلى الثدي يرضع، ثم مروا بجيفة حبشية أو زنجية تجر فقالت: أعيذ ابني بالله أن يموت ميتة هذه الحبشية أو الزنجية، فترك الثدي فقال: الله أمتني ميتة هذه الحبشية أو الزنجية! فقالت أمه: يا بني سألت ربك أن يجعلك مثل هذا الفارس فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وسألت ربك ألا يميتك ميتة هذه الحبشية أو الزنجية، فسألت ربك أن يميتك ميتتها، فقال الصبي: إنك دعوت ربك أن يجعلني مثل رجلٍ من أهل النار، وإن الحبشية أو الزنجية كان أهلها يسبونها ويضربونها ويظلمونها فتقول: حسبي الله! حسبي الله!) رواه الإمام أحمد ، ورجاله ثقات، وأصل القصة في الصحيح
السؤال العملي العملي هو كيف يصير الواحد فينا عدلا وجتمعنا يسوده العدل؟ أولا تربية النفس على التواضع: أن تذل نفسك بين الناس لتزكيتها فيجلب لك ذلك محبة الله والناس جميعا، هل جربت أن تمشي بين الناس وتعتبر نفسك أذلهم وأحقرهم وأدناهم منزلة؟ عمر حدثته نفسه انك الأن خليفة المسلمين ليس فوقك أحد فربى نفسه حمل قربة ماء ويطوف بالسوق يسقي الناس وهو امير المؤمنين، وهو ذاهب الى بيت المقدس نزل من على الدابة وهو حافي القدمين فقال له ابو عبيدة اركب يا امير المؤمنين فان البطارقة واليهود سيحتقروننا قال عمر لو ان غيرك قالها يا ابا عبيدة ما كنا اذلة فاعزنا الله بهذا الدين ومن ابتغى العزة في غيره اذله الله
ثانيا الامور هي المحاسبة وعدم الغفلة: وقف سفيان الثوري يوم عرفة فبكى يوم الحج الأكبر يوم يتجلى الله للناس, فقال: [[يا رب! إنك تغفر للجليس بجلسائه اللهم فإني لا أعلم أفجر مني في أهل الموقف اليوم، اللهم فاغفر لي معهم ]] سفيان الثوري ؛ سيد التابعين، زاهد الدنيا أمير المؤمنين في الحديث، يقول: إنه أفجر أهل عرفات. والكل يعلم بشعار عنـزة عمر ، تلك العنـزة التي تسير على أرض العراق فيقول عنها عمر وهو في المدينة : [لو عثرت عنزة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لِمَ لم أمهد لها الطريق] هذه هي المحاسبة الذاتية فتطول الرعية ايجابا فالمحاسبة دواء فعال للغفلة وعدم المبالاة بما يهم الخلائق؛ فالغفلة دمار للعدل ومسح لأثره فالغفلة تعتري القلوب يوم أن تعرض عن طاعة الله عز وجل، ودواؤها ذكر الله والاكثار من ذلك يقول عطاء بن أبي رباح : [[مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو ]] الذكر هنا هو التذكر الدائم للما في عاتق الناس من مسؤوليات وليس الترديد الشفوي فذكره أي ايقضه ليقوم بمت عليه من عمل.
ثالثها العفو به صار الحكام والخلفاء عادلين: إذًا قال الفضيل بن عياض رحمه الله:” إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي! اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر؛ لأن بعض الناس لا يحسن الانتصار، بل يظلم ويتجاوز في الانتقام، فيقول الفضيل: أوصه فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وتأخذ حقك فقط فافعل، إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه بابٌ واسع، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً لا يخشى أنه تجاوز، ولا يحتاج إلى التفكير في شيء، لأنه لم ينتقم أصلاً، وصاحب الانتصار يُقلب الأمور، ويكون قلقاً، ويقول في نفسه: هل يا تُرى تجاوزت؟! هل يا تُرى اعتديت؟! ونحو ذلك، وهذه المرتبة مرتبة العفو مرتبطة بالعدل ارتباط تلازم فالانتقام قتل والعفو حياة، فالعدل كلمة تحيا بإقامة دلالاتها ومعانيها بين الناس فتكون النتيجة اقامة نهضة وحضارة؛ فالله ينصر الامة العادلة نصر التمكين والعزة والرفعة والسمو.

Comments (0)
Add Comment