جمالية التلقي: رؤية في التحديات والأفاق والاستجابة المطلوبة
رأي المواطن
تقديم:
مفهوم “النقد” ليس هو ذاك الاصطلاح الذي أطلقه النقاد القدماء اسم “الصيرفي” بل إنه شحنة متكاملة من المعارف المختلفة، وقد بغدو الحديث عنه أبرز عنصر في الثقافة، فهو موجود في كل الأزمان وفي كل التواريخ، بل يتدخل في عملية استكناه المسكوت عليه، فيخرجه من حالة الإمكان إلى حالة الوجود، وهذه التخريجة هي بمثابة انخراط في تكوين الذات الناقدة عبر تكوينه للذات المنقدة، والنقد العربي لم يعد يكف عن طلب المغايرة بل نراه يجري وراء كل جديد، وفي كل سبيل فليس إذن وحدة سكونية لهذا المفهوم.
ولقد عرفت دار الشباب بن دباب ندوة علمية مسرحية ونقدية شارك فيها العديد من الفاعلين المثقفين ومنهم على الخصوص د. يونس الوليدي، وذ. الغزیوي بوعلي، ورئیس الجمعية إدریس الداکي، فبعد الترحیب والثناء عن هذه المبادرة من طرف الجمعية. وما فعلته من مجهودات قصد خلق الفعل الإبداعي وتقريب الإنسان من حقيقة الأشاء، لأن هذا الاحتراق هو کسر لهذا المألوف ولكل صمت رهيب الذي يخیم على هذه المدينة، وفي البداية قدم السيد الرئيس نبذة عن المشاركين في حفل توقيع کتاب “خطاب التجريب في المسرح العربي” للدكتور عبد الرحمن بن زیدان، قمت بمداخلة بسيطة التي تندرج تحت منهجية الجدول المرسوم، وهذه المداخلة هي “مقاربة سوسيولوجية لمفهوم التجريب” لأن العنوان بمثابة میثاقا، یلزمنا الخوض فيما يختزنه من استفهامات افتراضية ولدت عناصر هذه المداخلة المتواضعة.
وقبل أن أستحضر هذه العناصر المكونة لابد أن نؤكد على حقيقتين جوهريتين:
1) أن المناهج النقدية على اختلاف صنوفها المعرفية ليست بمثابة ریشة فنان يأخذها كل
من دب وهب وليس زينة يتزین بها الناقد.
ليثبت جدارته، بل إنها وظائف إجرائية تدفعنا إلى تطبيقها على المتن المدروس لمعرفة ماهیة النص وبواطنه، والمنهج المطبق هو السوسيولوجي الذي يتوخی الموضوعية رغم احتفاظه بالقيمة المعرفية والتاريخية، فالمؤلف وظف عدة مناهج منها على الخصوص “منهج فوکو، وديريدا” لأن هذا الحفر في النصوص ودراستها من أجل استخراج منطوقاتها، أعطت لهذا المشروع انفراديته، وسمته المتميزة.
2) أن القيمة المعرفية والجمالية في إطار تطورها أعطت لهذه الوظائف بنيانا واسعا بعد أن اهتمت بما هو خارج النص. ولكن هذه القيمة منحت للنص تشكله واكتمال دائرته النظرية، وبناء على هاتين الوحدتين يتوخي هذا المدخل الانطلاق من أسئلة جوهرية تشكل الرؤية الممنهجة
التي أرغب السير في مقامها. وهذه الأسئلة هي على الشكل التـالي: لماذا الخطاب، وليس
الفكر وماذا عن التجريب، وما علاقة التجريب بالخطاب، هل الذات العربية قادرة على خلق خطابها؟ وما موقع القارئ في هذا المتن المدروس، وما علاقة د. عبد الرحمن بن زيدان بالنقد المسرحي؟ لماذا هذا الهوس التجريبي؟ وما هو المنهج المبثوث في ثنايا الكتاب؟ أسئلة عديدة ومختلفة الطرح والممارسة والوظيفة الإبدالية، فالباحث عمد إلى تقسيم الكتاب إلى بابين: باب خاص بالنتاج المسرح العربي “بیروت – الكويت – العراق – سوریا -مصر – السعودية” ونتاج مسرحي مغاربي “على مستوى الكتابة الدرامية، والنقد “مسرح القلعة “تونس” مسرح المثلق” بالجزائر، ومسرح “العبث تیمد، ومسرح الفرجة “الصدیقي” والشعري “عبد الله شقرون” ومسرح الشهادية والنفي “محمد مسکين” وأخيرا مسرح “کتاب” هنا المسرح هنا بعض تجلياته” للدكتور حسن المنيعي، وهذه المحطات المسرحية والخليجية والمغاربية دفع الباحث بنا إلى استكشاف في بعض بواطن الكتاب البعد التاريخي والنفسي والجمالي، والاجتماعي، إذ لا يمكن أن نستقرئ أي نموذج من هذه المحطات المسرحية بعيدة عن العلوم الإنسانية هذا من جهة ومن جهة ابستمولوجي يتساءل الناقد عن السر الكامن وراء هذا المتن المسرحي الدرامي والمتحكم في جماليته، وإن كان الباحث لا يستنفذ الإبداع الدرامي عن طريق علم الاجتماع أو السميائية، أو البنيوية، أو التفكيكية، وإنما يكاد يقترب من سوسيولوجيا “المضامين، والنص” ومتسائلا عن ماهية علم الجمال دون أدني للتدخل البعد الخارجي.
والإنتاج التجريبي لم يظهر عند العرب بشكل مباشر إلا مع بداية السبعينيات فلم يكن يأخذ اسمه أو هويته جديدة داخل المناخ المسرح العربي إلا مع الجماعات المتباينة، ومع مسرح الهواة. واستطاعت الاحتفالية في بيانها الأول لسنة 1979 أن تغاير كل الترسبات الماضية وأن تخلخل كل الثوابث اللاعقلانية، ورافضة ديكتاتورية المؤلف، وحصانة المخرج، عارضة الذات الجماعية هي أساس الإبداع، وليس الفرد/ أو الخالق بالمفهوم الديريدي، وهذا الإلغاء للحصانة والحجر دفع بالعديد من الجماعات، كالسرادق والسوك، والبحر، والحكواتي إلى النداء بالإبداع الجماعي والتجريب الكلى بعيدين عن الأنوية “الأنا” eggo.
ومهما يكن من أمر أن كل إبداع خیالی مهما كانت درجة انخراطه في سلالة التكون، إلا وينعكس مضمون الوعي الجماعي وكذلك الطريقة الإبداعية التي يدرك بها هذا الوعي “للواقع، والعالم” والباحث في انزياحاته يؤكد على أن التجريب فعل وإصرار جماعي يحث على خلق لغة وإنارة، وفكر، ورؤية جماعية. من أجل خلق مسوغات جوهرية. والحقيقة أن تعدد الطرق ليس إلا مظهرا لتعدد المفاهيم والرؤى الفكرية التي تقف وراء كل ناقد، ودارس. ولعل المنظور المنهجي والنقدي كما يتبين من خلال العنوان يستند على عدة مناهج عربية وغربية ومن ثم كان لزاما علي التعرف على بعض ممهدات هذا الاتجاه، وكيفية توظيفه في النقد المسرحي ص 296 – مع استحضار بعض القضایا الاحتفالية هنا – الآن – نحن” والإنسـان – الاحتفال – الانعكاس – الواقعية.
وجماع القول أن الخطاب النقدي الزیدانی “زيدان” عملية مركبة ومتواشجة مع مختلف المناهج ولكونها تسترفد من معينه وهی خطاب على خطاب يصعب القبض على الأنا الناقدة.
ويتمنع عن الحصر، وينفلت من كل محاکاة أو انعکاس آلي وميكانيكي، والأدب المسرحي
کما تعلمون فن تعبيري مرکب يربط بين ما هو سمعي وما هو بصري، ویستند على عناصر فكرية وجمالية ويتغير بتغير الأزمان والتواريخ، فالباحث حاول ضمنيا أن يقربنا إلى بعض الثورات التي عرفها المسرح الغربي انطلاقا من كل مفهوم التجريب، ومن هذه التوارات ثورة کریج Garig الذي استبدل الممثل بالماريونيت، وأدولف أبيا، الذي ألغى النص معتمدا على التجريب الجماعي، وكذا جاء كوبو مع جماعته “الكارتيل” وكذا ستافيسلافسكي المرتبط بالتجريب الذي هو المعمل “و مایر هولد” وكذا ألفريد جاري صاحب “أبو ملكا” وأرطو Conta، وكذا سارتر، وسالكرو وبريخت، بالگرو وبریخت، وغروتوفسکي، وبیسکاتور، واستوبول، وبروك. وهلم جرا، من هذا المنظور يتسم العمل النقدي یمیسم إشكالي فكثيرة هي الأسئلة التي تعترض سبيل الباحث و دارس لهذا المتن -Corحول ضبط عملية المناهج pus مع تقنيين الأعمال الأدبية من حيث مكوناتها الداخلية وعناصرها المشكلنة ومن حيث الشروط الاجتماعية والتاریخية، والنفسية وكل المؤثرات التي تساهم في بناء هذا المشروع الجديد.
وفي الأخير نشكر الحضور الكريم عن هذه المشاركة وبالأخص جمعية مسيرة الشباب، وكذا إدريس الدكي، وكذا الإدريسي عبد الرحمن، والإدريسي محمد رئيس جمعية الجدار الرابع، والسباعي، والسلام في الختام وقع د. عبد الرحمن بن زیدان كتابه قصد تكسير هذا الصمت منوها بجريدة المسيرة الديمقراطية التي ما لبثت تقرب البعيد وتهتم بما هو ثقافي، وأشكر المراسل الأستاذ الغزیوي بوعلي عن هذه المداخلة القيمة. ونشكر الأستاذ القریشي وجميع الحضور الكریم.
إن الشيء الأساسي في قراءة كل عمل أدبي هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه. لهذا السبب نبهت نظرية الفنومينولوجيا بإلحاح إلى أن دراسة العمل الأدبي يجب أن تهتم ليس فقط بالنص الفعلي، بل كذلك وبنفس الدرجة بالأفعال المرتبطة بالتجاوب مع ذلك النص. فالنص ذاته لا يقدم إلا “جوانب مرسومة” يمكن من خلالها أن ينتج الموضوع الجمالي للنص)(1).
يمكن أن نستخلص أن للعمل الأدبي قطبين: القطب الفني والقطب الجمالي. فالأول هو نص المؤلف، والثاني هو الإدراك الذي يحققه القارئ، وعلى ضوء هذه القطبية يتضح أن العمل ذاته لا يمكن أن يكون مطابقا لا للنص ولا لتحقيقه، بل لابد أن يكون واقعا في مكان ما بينهما. يجب أن يكون العمل الأدبي فاعليا في ذاته مادام لا يمكن اختزاله لا في واقع النص ولا في ذاتية القارئ، وهو يستمد حيويته من هذه الفاعلية(2).
إذا كان الموقع الحقيقي للعمل يقع بين النص والقارئ، فمن الواضح أن تحقيقه هو نتيجة التفاعل بين الاثنين. ولذا فالتركيز على تقنيات الكاتب وحدها أو على نفسية القارئ وحدها لن يفيدنا الشيء الكثير في عملية القراءة نفسها.
في تقييمه للعلاقات الشخصية المتداخلة كتب ر. د. لينع قائلا: “في الحقيقة لا أستطيع أن أرى نفسي كما يراني الآخرون، ولكني دائما أفترضهم يرونني بطرق خاصة، كما أني دائما أعمل وفقا للمواقف الحقيقية أو المفترضة، والآراء والحاجيات وغيرها التي يتبناها الآخر تجاهي”. والآن لا يمكن تسمية آراء الآخرين حولي رؤية خالصة لأن هذه الآراء نتيجة تأويل.
يتابع لينغ قائلا في كتابه “سياسة التجربة”: “إن تجربتك لي خفية عني وتجربتي لك خفية عنك، لا يمكنني أن أجرب تجربتك كما أنك لا يمكنك أن تجرب تجربتي، فكلانا رجلان خفيان وكل الناس خفيون عن بعضهم البعض. إن التجربة هي خفاء الإنسان عن الإنسان” ومع ذلك فهذا الخفاء هو ما يشكل أساس العلاقات الشخصية المتداخلة، وهو الأساس الذي يسميه لينغ “لا شيء”.
يعتمد الاتصال على استمرارنا في ملء الفراغ الأساسي في تجربتنا، وهكذا فإن التفاعل الثنائي والحيوي لا يحصل، إلا لأننا لا نستطيع أن نجرب كيف يجرب بعضنا البعض. وهذا بدوره يصبح دافعا للتفاعل. ومن هذا الواقع تنشأ الحاجة الأساسية من أجل التأويل الذي ينظم عملية التفاعل كلها. وبما أننا لا نستطيع الفهم بدون فكرة مسبقة فكل مبدأ لا يكون له معنى إلا إذا كان مستعملا سابقا لأن الرؤية الخالصة جد مستحيلة.
لذا يمكن للشريكين في التفاعل الثنائي أن يسأل أحدهما الآخر إلى أي مدى تسد صورتهما الهوة الناتجة عن عدم تجربتهما لتجارب بعضهما البعض. أما القارئ فلا يمكنه أبدا أن يفهم من النص إلى أي حد تكون آراؤه دقيقة أو غير دقيقة حول هذا النص.
إن غياب القدرة على التأكد وعدم تحديد الهدف هو بالضبط مصدر التفاعل بين القارئ والنص، وهنا يوجد ربط أساسي مع التفاعل الثنائي.
لإن الفراغات أي عدم التناسق بين النص، والقارئ هي التي تسبب التواصل في عملية القراءة، وعدم وجود وضعية مشتركة وإطار مرجعي مشترك يقابل “اللاشيء” وهو الذي يحدث التفاعل بين الأشخاص. إن اللاتناسق و(اللاشيء) كلها أشكال مختلفة للفراغ المكون والغير المحدد، وهذا الفراغ هو أساس كل عمليات التفاعل.
ومع ذلك فعدم التوازن بين النص والقارئ الغير المحدد، وعدم هذا التحديد ذاته هو الذي يكثر نوعية التواصل الممكن.
والآن لكي يكون التواصل بين النص والقارئ ناجحا يجب كذلك وبكل وضوح أن يضبط نشاط القارئ بطريقة ما من طرف النص. ولا يمكن أن يكون هذا الضبط دقيقا بنفس المقدار الذي تكون عليه وضعية “وجها لوجه”.
إن اشيء المفقود في المشاهد التي تبدو تافهة والثغرات التي تبرز من الحوارات، هو ما يحث القارئ على ملء الفراغات بالانعكاسات، يجذب القارئ داخل الأحداث ويضطر إلى إضافة ما يفهم مما لم يذكر. وما يذكر لا يكون له معنى إلا كمرجع لما لم يكر. إن المعاني الضمنية وليس ما يعبر عنه بوضوح هي التي تعطي شكلا ووزنا للمعنى، ولكن عندما يبرز الشيء غير المذكور في مخيلة القارئ، فكذلك يتوسع ما يذكر في معنى أكبر مما قد يكون متصورا، وحتى المشاهد التافهة يمكن أن تظهر عميقة جدا بصورة مدهشة. إن “الشكل الثابت للحياة” الذي تتحدث عنه فرجنيا وولف لا يظهر على الصفحة المطبوعة بل إنه النتيجة التي تنشأ من التفاعل بين النص والقارئ.
إذن، فالتواصل في الأدب عملية لا يحركها أو ينظمها قانون مسبق، بل تفاعل مقيد وموسع متبادل بين المعنى الواضح والمعنى الضمني، بين الكشف والخفاء.
إن الشيء الخفي يحرض القارئ على الفعل، ويكون هذا الفعل مضبوطا بما هو ظاهر. ويتغير الظاهر بدوره عندما يخرج المعنى الضمني إلى الوجود. وكلما سد القارئ الثغرات بدأ التواصل. وتعمل الثغرات كالمحور الذي تدور حوله العلاقة بين القارئ والنص كلها. ومن هنا تشير فراغات النص المركبة عملية التخيل التي يقوم بها القارئ بناء على شروط يضعها النص.
يرتكز القسم الحكائي على شخصية معينة ثم يتابع بتقديم مفاجئ لشخصيات جديدة، وهذه التغييرات المفاجئة غالبا ما تشير إليها فصول جديدة، وهكذا تكون متميزة بوضوح. ومع ذلك فموضوع هذا التمييز ليس تفريقا بقدر ما هو حث على إيجاد الربط المفقود، وعلاوة على هذا ففي كل لحظة قراءة ملفوظة بوضوح لا تحضر إلى وجهة نظر القارئ المتجولة إلا أجزاء من آفاق النص.
ولكي نفهم المعنى الضمني جيدا، يجب علينا أن نكون واعين بأن النص الحكائي مثلا يتكون من أبعاد مختلفة، فهي التي ترسم وجهة نظر الكاتب، كما أنها كذلك تسهل على القارئ ما ينبغي أن يتصوره. كقاعدة لأن هناك أربعة أبعاد رئيسية في السرد، وهي: بعد الراوي، وبعد الشخصيات، وبعد الحبكة، وبعد القارئ المتخيل.
فمن خلال مدة القراءة تتضح أجزاء مختلف الأبعاد وتتقارن مع الأجزاء السابقة، هكذا فأجزاء الشخصيات والراوي والحبكة وآفاق القارئ المتخيل لا تتجمع في سلسلة متدرجة فحسب، بل إنها كذلك تتحول إلى عاكسات متبادلة. لأن الفراغ كفضاء فارغ بين الأجزاء يمكنها من الترابط بعضها ببعض، وبالتالي يشكل حقل الرؤيا لوجهة النظرة الهائمة.
ياوس والكتابة المضاعفة
إن طريقة ياوس في الكتابة تقوم على الحوار، فهو لا يعتمد النقل والتسليم بما هو موجود، كما لا ينبني نسقا مغلقا يتجاهل جهود الآخرين، بل قد يصل الحوار عنده إلى حد المساجاة، فيحرص على المحاسبة والمناقشة المستفيضة. وهو يحاور أيضا، يصلحها ويتجاوز أطرافا منها(3).
إن الرهانات المعاصرة، ومخاطر وحظوظ الوقت الراهن هي التي تعين عند ياوس نقطة الانطلاق ونقطة الوصول بالنسبة لكل دراسة نظرية: السؤال الذي يحظى بالأسبقية عنده هو: ما وظيفة الأدب اليوم، وما هو المعنى الذي يمكن أن يأخذه البحث الحالي الذي يتناول العصور الماضية؟ سؤال قد يبدو لأول وهلة وكأنه صادر عن عالم اللغة الذي يهتم بألا يترك مبحثه يغمر برمال الرتابة الوضعية، آملا أن يبرهن لزملائه ولجمهور عريض جدا على أن هذا المبحث الجليل قادر على تحديث نفسه حسب الظروف الحاضرة. غير أن مقترحات ياوس التي تتمتع بداهة بأهمية كبيرة بالنسبة للمؤسسة الجامعية (إذا ما كانت هذه راغبة في البقاء على قيد الحياة) هي المقترحات التي تندرج ضمن أفق أرحب هو التساؤل عن الحظوظ الحاضرة لتواصل بواسطة اللغة والفن عامة) يشكل عنصر تحرير وإبداع معا للمعايير بالنسبة للفعل المعيش. ووعيا منه بالانتماء الزمني لعمله نفسه فإنه يقيس بشكل دقيق المسافة التي تفصله عن ماض مختلف، ذلك الماضي الذي لا تتوقف رسالته، رغم بعده، عن الوصول إليه.
ويجد ياوس عند أولئك الذين يبحثون في النص، وفي تركبته المادية، عن أصل (أو سلطة أخيرة) رغبة في الإطلاق لا تخلو من مشابهة – وهذه مفارقة – للإحالة على الأفكار الأفلاطونية حول الجمال والتناغم وهي الأخرى حقائق لا يمكن تجاوزها.
يلح ياوس على أن تاريخ الأدب والفن بصفة عامة كان لزمن طويل جدا تاريخا للمؤلفين والمؤلفات، لقد اضطهد أو تناسى من اعتبروا مجرد سوقة (غير نبلاء) وهم القارئ أو المستمع أو المشاهد المتأمل، إذ ينذر أن يتحدث عن الوظيفة التاريخية للمتقي بالرغم ما بدا من ضرورتها على الدوام. ذلك أن الأدب والفن لا يصير صيرورة تاريخية ملموسة إلا بواسطة تجربة أولئك الذين يتلقون المؤلفات ويتمتعون بها، ويقومونها، ومن ثم يعترفون بها أو يرفضونها، يختارونها أو يهملونها فيبنون تبعا لذلك تقاليد، بل إنهم يستطيعون بصفة خاصة أن ينهضوا من جهتهم بالدور النشيط المتمثل في الاستجابة لتقليد ما، بإنتاج مؤلفات جديدة.
إن اهتمام ياوس على هذا الوجه بالمتلقي الذي يستجيب للمؤلف و”يحينه” يربط فكر ياوس بأفكار سابقة أرسطية وكانطية. ذلك أن أرسطو وكانط كانا الوحيدين تقريبا اللذين استطاعا في الماضي إقامة جمالية (خاصة بكل منهما) تأخذ أثر الفن في المتلقي بعين الاعتبار بصورة منهجية، لقد عرف ياوس ذلك جيدا ولم يتردد في دعم أطروحاته حول التجربة الجمالية ضمن عمل له حديث بنقل نصوص لكانط يقارن فيها الدعوة التي يوجهها المؤلف الفني إلى الإجماع الحر والتواصل الكوني “بالعقد الاجتماعي”.
إن القارئ هو إذن ذلك الذي يقوم بدور المتلقي، والمميز (أي بالوظيفة النقدية الأساسية المتمثلة في القبول أو الرفض)، وهو في أحيان خاصة المنتج الذي يحاكي أو يعارض مؤلفا سابقا سواء قام بذلك كله مرة واحدة أو بكل دور على حدة.
(…) إن علاقة النص المفرد بسلسلة النصوص السابقة عليه التي تشكل الجنس الأدبي تابعة لسيرورة متوالية من إقامة الأفق وتعديله. فالنص الجديد يثير عند القارئ (أو السامع)، ص: 42 أفق توقعات وقواعد اللعبة التي استأنس بها في اتصاله بنصوص سابقة. إن هذا الأفق يخضع بعد ذلك، مع توالي القراءات، إلى التغيير أو التصحيح أو التعديل، أو يقتصر على إعادة إنتاجه. فالتغيير والتصحيح يحددان الحقل المفتوح أمام بنية جنس ما، والتعديل وإعادة الإنتاج يحددان حدود امتداده.
البعد الجمالي للتلقي الأدبي
إن نظرية التلقي بالمعنى الدقيق، ترفض الموضوعية التي تستند إليها نظرية النصوص وتحليلها، وهذه المسلمة تشمل:
1) المشروع الفينومينولوجي الذي يدحض، منذ هيسيرل الموضوعية.
2) المشروع الهيرمينوطيقي الذي يفترض الوحدة بين سيرورة الفهم وذات المنتج وذات مؤول المعنى.
3) نقطة انطلاق أبحاث ميكاروفسكي القائمة على التكوين الاجتماعي للمواضعات.
4) وأخيرا مشروع التجريبيين المنبني على نظرية العمل وعلى علم النفس وعلم الاجتماع(4).
فيما يتصل بالسؤال: “من هو القارئ المعني هنا؟”.
يذهب تصور لكافك إيزر إلى المعاينة العالية: طبقا لاهتمام المعرفة الفينومينولوجية، فإن الأمر لا يمكن أن يتعلق بقارئ ملموس، تاريخي أو معاصر. بل إن القارئ المقصود هو بالضرورة تجريد. وحادث عارض تبنى خصائصه قبليا باستقلال عن كل وجود حقيقي.
ويبعد إيزر عن وعي، مفهوم القارئ “المثالي” الذي استعمله أنكاودن، لأنه يرفض فكرة “التجسد الملائم” التي يستتبعها ذلك المفهوم (القارئ المثالي). على هذا النحو يوضح إيزر مفهومه للقارئ داخل “فعل القراءة”: “هكذا عندما يتعلق الأمر بالقارئ في الفصول التالية لهذا الكتاب، فإنه يجب أن نفهم بنية القارئ الضمني القائمة داخل النصوص (…).
فالقارئ الضمني لا يملك وجودا حقيقيا لأنه يجسد مجموع التوجهات الأولية التي يقترحها نص تخييلي على قرائه الممكنين والتي هي شروط تلقيه، نتيجة لذلك، فإن القارئ الضمني ليس منغرسا في جوهر تجريبي بل هو متجدر داخل بنية النصوص نفسها” (ص: 60، 1976).
يقول إيزو عن دور القارئ: “إن دور قارئ النص يقبل تحققات تاريخية وفردية مختلفة وذلك على ضوء الاستعدادات الوجودية وكذلك على ضوء الفهم الأولي الذي يحمله القارئ الفردي للقراءة (…) فدور القارئ يشتمل على جدول من الإمكانات التي تكون في كل حالة ملموسة، موضوعا لتحيينات محددة، وبالتالي فإنها “مؤقتة” لا غير. على أنه يتحتم القول بأن إيزر لا يذهب وفق هدفه الفينومينولوجي، إلى حد وصف تلك التحيينات المؤقتة وصفا ملموسا.
إن إعادة تشييد أفق انتظار قابل للتوضيع “داخل نسق انتظارات قابل للتوضيع… ينحدر بالنسبة لكل عمل فني في اللحظة التاريخية التي يظهر فيها، من الفهم المسبق للجنس، وللشكل، ولتيمة الأعمال الأدبية المعروفة من قبل ومن التعارض بين لغة شعرية وأخرى عملية”.
فجمالية التلقي ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي على العكس، تفيد (أي إعادة تشييد أفق انتظار) في بناء تقليد للأعمال الأدبية تنتمي إلى استيقا السلبية. وتجب ملاحظة أن يوس ينطلق من مسلمة كون تحطيم المعيار هو العنصر الأكثر أهمية في الفن العظيم. ذلك أن المسافة الاستيتيقية تنتهك أفق الانتظار وتغيره. وبعبارة أخرى: فإن عملا أدبيا كبيرا ينتهك أفق انتظار عصره، وبتكسيره لذلك الأفق يستتبع تحوير أداء ماله.
لقد عاينا أن يوس يشيد أفق الانتظار بكيفيك تاريخية وتجريبية، لكنه سرعان ما يتخلى عن وجهة النظر تلك بمجرد ما يؤول العمل الأدبي المجدد. إنه يعود إلى المنهج الهيرمينوطيقي الذي يولي الأفضلية لإنتاج المعنى إنتاجا ذاتيا بدلا من الفهم القابل للموضوعية لدى قراء آخرين. إن يوس يطالب بتاريخ للأدب “يستكشف سيرورة التلقي بمساعدة الأداة التي تعوض، في مجال فهم المعنى، النموذج التجريبي للملاحظة القائمة على “التجربة والخطأ”: أي أداة لعبة سؤال – جواب بين القارئ والنص” (انظر يوس1975. ) والقارئ المقصود هنا ليس هنا قارئا تاريخيا وواقعيا بل قارئ مؤمثل هو بالضرورة متماه مع ذات التلفظ، وبدقة أكثر هو المؤول، أي يوس نفسه(5).
إن عرضا لنظرية التلقي سيظل ناقصا إذا لن نضمنه رد فعل ومساهمة علم الأدب في الجمهورية الديموقراطية الألمانية. وإذا كنا لم نتناول هذا المغاير في نفس الوقت الذي تحدثنا فيه عن المدارس الألمانية الأخرى، فذلك راجع إلى أن دراسة التلقي لم تكن تمثل بألمانيا الديموقراطية تغييرا في المنظور أو مشروعا جديدا.
فاستقلالية النص، التي كان على نظرية التلقي أن تبتعد عنها من أجل إعادة تحديد موضوعها، كانت غائبة في جميع الأحوال، عن العلم الأدبي الماركسي.
إن استيقا التلقي بإيلائها للتلقي على الإنتاج قد فقدت كل تطلع نحو تشييد منظور. ويصوغ مانفريد نومان (1976) هذا الانتقاد قائلا: “لا أرى (في التلقي) تغييرا كبيرا في المنظور بقدر ما اعتبر ذلك حركة رقاص (الميزان)” قاصدا من ذلك أنه يعتبر برنامج يوس بمثابة زحزحة تعسفية لمركز الاهتمام أكثر مما هو تقدم نظري(6).
إن نومان ينتقد مفهوم المسافة الجمالية عند يوس: “القارئ المثالي الآن هو من يلتذ بالتحطيم المستمر ل “أفق انتظاره الأدبي” بواسطة الأدب “الأحدث زمنيا” (…) بينما كل اتفاق أصيل، مثلا بين أدب ثوري وقرائه بوصفهم ذواتا تاريخية واقعية، سينعث أنه فاقد لخصوصيته الجمالية منذ ظهوره”.
إن دراسة التلقي لا تستطيع الزعم بأنها المقاربة العلمية الوحيدة للأدب وللتواصل الأدبي. ومع ذلك فإن عليها، داخل حدودها، أن تتصرف بطريقة منطقية، وأن تنكب على دراسة حقيقية للقارئ.
إشكالية القراءة والتأويل
دشن هرسرل – على غرار سلفه الفيلسوف ديكارت- بحثه عن اليقين بالرفض المؤقت لما يسميه “الموقف الطبيعي” أي الاعتقاد البديهي لرجل الشارع بأن وجود الأشياء في العالم الخارجي وجود مستقل عنا وان معلوماتنا عنها معلومات موقوف بها على العموم.
يعتبر هذا الموقف إمكان المعرفة أمرا متفقا عليه، في حين أن هذا بالذات هو ما وضع موضوع استفهام. فما الذي يمكن أن يكون واضحا لدينا وأن يكون على يقين منه؟ رغم أننا لا نستطيع التثبيت من الوجود المستقل للأشياء فإننا نقول بقول هوسرل، يمكن أن نتيقن من كيفية ظهورها مباشرة في وعينا سواء كان الشيء المختبر وهما أم لا. فالأشياء يمكن النظر إليها لا باعتبارها اشياء في ذاتها وإنما باعتبارها أشياء يسلم بها الوعي أو” يقصدها”. كل وعي هو وعي شيء ما: حين أفكر أعي أن تفكيري مرتكز على شيء ما ففعل التفكير وموضوعه مترابطان ترابطا داخليا ومتوقفان على بعضهما على أن الوعي ليس مجرد تسجيل منفعل للعالم وإنما هو تكوين له “وقصد” فاعلان. وتبعا لذلك وفي سبيل إقامة اليقين يجب أولا وقبل كل شيء أن نتجاهل كل ما ليس في المتناول تجربتنا المباشرة أو أن “نضعه بين قوسين”، ويجب أن نختزل العالم الخارجي في المحتويات وعينا وحده. هذا الذي سمي “الاختزال الظاهراتي” هو أول خطوة مهمة خطاها هوسرل وبناء عليه يجب أن ينحني بشكل حاسم كل ما ليس “ملازما” للوعي، ويجب أن تعامل كل الوقائع ظواهرا خالصة وباعتبار تجليها في الذهن. هو المعطى المطلق الوحيد الذي يمكن أن ينطلق منه ومن هذا الإصرار انبثق اسم الذي أطلقه هوسرل على منهجه الفلسفي الظاهراتية إنها علم الظواهر الخالصة.
على أن نوع الظواهر ” الخالصة” الذي يشغل بال هوسرل ليس مجرد تفاصيل فردية عشوائية بل هو نسق من الجواهر الكلية، إن الظاهراتية تميز كل ما يوجد في خيال لأن تكتشف الثابت فيه. ذلك أن ما يقدم إلى المعرفة الظاهراتية هو مثل تجربة الغير أو تجربة اللون الأحمر فحسب بل الأجناس أو الجواهر الكلية لهذه الأشياء، أي الغيرة أو الحمرة من حيث هي غيرة او حمره على التوالي. إن إدراك ظاهرة ما إدراكا كليا وخالصا معناه إدراك ما هو جوهري وثابت فيها.
إن الغاية ظاهراتية خلف التجريد تماما إنما العودة إلى الملموس إلى الأرض الصلبة كما اقترح ذلك شعارها المشهور “العودة إلى الأشياء في ذاتها”.
أما الظاهراتية في فبإمكانها – نظرا لتمسكها بما يمكن التثبيت منه تجريبيا- أن تقدم أساس الذي يمكن أن تشييد على صرحه المعرفة الصحيحة الموثوق بها، بإمكانها أن تكون “علم العلوم” الذي يهيئ لنا المنهج لدراسة كل شيء: الذاكرة والمباريات الملاكمة والرياضيات.
ليست الظاهرات هي شكل من أشكال النزعة التجريبية المهتمة بتجربة العشوائية الجزيئية لأفراد معينين، ولا نوعا من النزعة النفسية المهتمة فقط بالعمليات الذهنية القابلة للملاحظة لدى هؤلاء الأفراد بل هي تدعى كشف حقيقه بالنيات الوعي نفسه وفي الوقت ذاته تعمل على كشف نفسها.
إن الظاهراتية هي شكل من أشكال المثالية المنهجية التي تسعى إلى السير أغوار فكرة تسمى وعي الإنسان والعالم من ممكنات الخاصة.
أعادت الظاهرات الذاتية المتسامية إلى عرشها الشرعي، فالذات ينبغي اعتبارها مصدر كل المعنى وأصلا له: ليست هي نفسها في الواقع جزءا من العالم لما كانت تجعلهم في الصدارة وترجمة ذلك لأن الظاهراتية استعادة حلم القديم لإيديولوجيا البرجوازية الكلاسيكية وجددته.
يعتبر النقط الظاهراتي محاولة لتطبيق المنهج الظاهراتي على الأعمال الأدبية. وكما هو شأن الموضوع الحقيقي لدى هوسرل تم تجاهل السياق التاريخي الفعلي للعمل الأدبي ومؤلفه وشروط إنتاجه وقراءه.
كان النقد الظاهراتي يهدف إلى قراءة “محاثية” شاملة للنص بعيدا عن المؤثرات الخارجية.
يحاول النقد الظاهراتي تحقيق موضوعية وحياد تأمين قصد الإمساك بهذه البنيات المتسامية وولوج دواخل وعي الكاتب، ويجب عليه ان يتطهر من ميولاته الخاصة وأن يغوص بشكل حاسم في “عالم” العمل الأدبي وأن يعيد إنتاج ما وجده هناك بشكل دقيق وغير منحاز قدر الإمكان.
يرى النقد الظاهراتي أن لغة العمل الأدبي تفوق شيئا ما “التعبير” عن معانيه الداخلية، ويعود هذا الرأي القديم نوعا ما إلى هوسرل نفسه الذي لم تحتل اللغة في ظاهراتيته إلا حيزا ضيقا. يتحدث هوسرل عن مجال خصوصي داخلي خاص للتجربة لكن لما كانت كل التجربة تتطلب لغة واللغة بطبعها اجتماعية، فإن هذا المجال في الواقع الأمر مجرد خيال.
رغم تركيز الظاهراتية على الواقع كما هو مجرب فعليا باعتباره “العالم الحي” بدل واقع محايث فإن وقفتها الخاصة أمام العالم ظلت تأملية وغير تاريخية.
ان الإقرار بتاريخية المعنى هو ما أدى الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر أشهر تلامذة هوسرل إلى إعلان القطيعة مع نسق الفلسفي.
يعني الانتقال من هوسرل إلى هايدجر الانتقال من الميدان العقل الخاص إلى الفلسفة تتأمل ما يحتمل أنه حي.
فعمل هوسرل جوهراني- هايدجر وجودي
لذا يصف هايدجر مشروعه الفلسفي بأنه “هيرمينوطيقا الكينونة” وتعني كلمة “هرمينوطيقا” علم التأويل أو فنه. ويشار عادة إلى أن فلسفة هايدجر بأنها ظاهراتية هرمينوطيقية” لتمييزها عن الظاهراتية الترنسندنتالية” لهوسرل وأتباعه، وهي تسمو كذلك لأنها تتأسس على قضايا بالتأويل التاريخي بدل الوعي المتسامي.
يرى هوسرل أن المعنى “موضوع مقصدي”. وترجمه هذا أنه ليس قابل للاختزال في أفعال نفسية لمتكلم أو مستمع، ولا مستقلا تماما عن مثل هذه العمليات العقلية. ليس المعنى موضوعيا كما هي الأريكة مثلا، لكنه ليس ذاتيا، إنه ضرب من الموضوع “المثالي”، من حيث أنه يمكن التعبير عنه بالطرق عدة إلا أنه يظل هو هو، ويرى هذا الرأي أن معنى العمل الأدبي القار بصفة نهائية، إنه مطابق للموضوع العقلي “الموجود” في ذهن المؤلف، أو الذي “قصده” أثناء الكتابة.
ليس التاريخ في نظر كادامير مجالا للصراع والانقطاع والنفي، بل “سلسلة متصلة”، نهر دافق على وجه التقريب ناد من المتماثلات.
وصف كادامير التاريخ مرة بأنه “التخاطب الذي هو نحن”. وترى الهرمينوطيقا أن التاريخ حوار بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهي تسعى بأناة إلى رفع الحواجز من طريق هذا التواصل المستمر، ولكنها لا تستسيغ فكرة إخفاق التواصل الذي ليس تواصلا عابرا فحسب، والذي لا يستصوب فقط بمزيد من التأويل النصي الحساس، بل هو تواصل نسقي نوعا ما: لنقل أنه تواصل متجدر في كل البنيات التواصلية في المجتمع.
تميل الهرمينوطيقا، كما رأينا ذلك إلى التركيز على أعمال تنتمي إلى الماضي، وتنبثق الأسئلة النظرية التي تطرحها من هذا المنظور، ولا غرابة في ذلك أن أدركنا أن بدايتها متصلة بالمخطوطات، بل إن لذلك دلالته: فالهرمينوطيقا ترى أن دور النقد هو منح المعنى للأعمال الكلاسيكية.
من المفيد الإشارة إلى أن هيرش، رغم نفوره التام من المفاهيم العضوية الرومانسية يشاركها الانزياح إلى أن النصوص الأدبية مجموع متكامل، ومن ثم تكمن واحدة العمل في مقصد المؤلف الساري في العمل كله. لا وجود لسبب يخول دون توفر المؤلف على عدد من المقاصد المتقاربة، ولا دون أن يناقص مقصده نفسه نوعا ما، لكن لا يأخذ هذه الاحتمالات بعين الاعتبار.
يسمى أحدث تطور عرفته الهرمينوطيقا في ألمانيا “جماليات التلقي” أو “نظرية التلقي” وعلى خلاف كادامير لا ترتكز هذه الأخيرة على الأعمال المنتمية إلى الماضي، بل تفحص دور القارئ في الأدب، وهي بهذا تعتبر تطورا جديدا إلى حد ما يمكننا. أن نقسم تاريخ نظرية الأدب إلى ثلاث مراحل على وجه التقريب: الاهتمام بالمؤلف (الرومانسية، القرن التاسع عشر)، في العناية المخصوصة بالنص (النقد الجديد)، تم انتقال بؤرة الاهتمام بشكل لافت، إلى القارئ في السنين الأخيرة. وقد كان القارئ على الدوام، العنصر الأقل امتيازا في هذا الثلاثي، وهذا أمر غريب، إذ بدون القارئ لن تكون هناك نصوص أدبية بالمرة. ذلك أن هذه الأخيرة لا يتحقق وجودها بتوضيبها على الرفوف: إنها إجراءات للدلالة تتجسد بممارسة القراءة، إن وجود القارئ حيوي كما هو حيوي وجود المؤلف كي يوجد الأدب.
يقيم القارئ ترابطات ضمنية تهم العالم عامة وتقاليد الأدبية خاصة. النص ذاته ليس – في حقيقة الأمر – إلى مجموعة من “الإشارات” الأولية المرسلة إلى القارئ، دعوة لإنشاء قطعة لغوية ذات معنى. وفي اصلاح نظرية التلقي يجعل القارئ العمل الأدبي “مجسدا”، وليس هذا الأخير نفسه سوى سلسلة منظمة من العلامات السوداء على الصفحة. فبدون هذه المساهمة المستمرة والنشيطة من قبل القارئ لن يكون هناك عمل أدبي على الإطلاق.
ترى نظرية التلقي أن عملية القراءة عملية دينامية دائمة، وحركة معقدة وكاشفة عبر الزمن. أما العمل الأدبي نفسه فيوجد باعتباره – كما يسميه المنظر البولوني رومان انكاردن- مجموعة من “الخطابات” أو “المؤشرات” العامة يناط بالقارئ تحيينها. ولتحقيق ذلك على القارئ أن ينظر إلى العمل الأدبي من خلال ضروب من “الفهم القبلي”، ومن خلال سياق معتم من الاعتقادات والتوقعات التي ستقدر في ضوئها مختلف خصائص العمل الأدبي.
وكلما تقدمنا في القراءة عدل ما نقرأه هذه التوقعات نفسها، فتشرع الدائرة الهرمينوطيقية – الانتقال من الجزء إلى الكل، ثم من الكل إلى الجزء في الدوران. أثناء بذل القارئ الجهد من أجل بناء معنى منسجم من خلال النص سينتقي، “مجسدا” مفردات معينة بطرق معينة وسيحاول أن ينتقل مختلف المنظورات مجتمعة داخل العمل، أو ينتقل من منظور إلى آخر قصد بناء “وهم متكامل”. على أن ما سنقرأه في الصفحة الأولى سيخفت ويصبح مقلص في الذاكرة، ربما ليقوم بشكل حاسم، بما سنقرأه في ما بعد، ليست القراءة حركة خطية مستقيمة أو مسألة تراكم فحسب تولد تخميناتنا الأولى إطارا مرجعيا يؤول فيه ما يأتي لاحقا، لكن ما يلحق قد يغير بأثر رجعي فهمنا السابق مضيئا بعد خصائصه حاجبا أخرى. وكلما تقدمنا في القراءة طرحنا افتراضات جانبا وراجعنا قناعات وقمنا باستنباطات وتوقعات أكثر تعقيدا: وتفتح كل جملة أفقا يؤكده أو يتحداه أو يلغيه ما يلحق. وتتزامن في قراءتنا عملية الذهاب إلى الأمام والإياب إلى الخلف، نتنبأ ونتذكر وربما أدركنا تحققات أخرى ممكنة للنص ألغتها قراءتنا بالإضافة إلى هذا ينجز كل هذا النشاط المعقد على مستويات متعددة في نفس الوقت لأن للنص “خلفا” و”أماما” ووجهات نظر سردية وطبقات بدائل معنوية تنتقل بينها باستمرار.
في رأي إيزر(Iser) إن العمل الأدبي أكثر حيوية هو ذاك الذي يجعل القارئ يعي سننه وتوقعاته المعتادة وعيا نقديا جديدا. فالعمل الأدبي يضع معتقداتنا المضمرة موضوع سؤال ويغيرها و”ينفي” عاداتنا الروتينية المتعلقة بالإدراك. ويجبرنا من ثم على الاعتراف بها لأول مرة كما هي، وبدل الاكتفاء بتقوية إدراكاتنا المعطاة يخرق العمل القيم للأدب هذه الطرق المعيارية للإدراك وينتهكها، وعلى هذا النحو يعلمنا سننا جديدة للفهم.
ويرى إيزر أن عملية القراءة، في مجملها، تتمثل في أنها النها تدفعنا إلى وعي أعمق، وتساعدنا على رؤية أكثر نقدية لهويتنا الخاصة، والأمر شبيه بما يلي: إذا كنا نقرأ كتابا لفائدتنا فنحن نقرأ بالأحرى هويتنا.
تتأسس نظرية التلقي الأيسرية، في الواقع على أيديولوجية إنسانية ليبيرالية تتلخص في أننا ينبغي أن نكون، أثناء القراءة مرنين ومتفتحين ومستعدين لوضع قناعاتنا موضوع سؤال وأن نسمح لها بالتغيير. يمكن خلق هذا التأثير هرمينوطيقا كادامير وثقتها في المعرفة الذاتية الغنية الناجمة عن مواجهة ما ليس مألوفا، لكن إنسانية الآيسر الليبرالية، كما هي حال مثل هذه المذاهب، أقل ليبرالية مما هي ظاهريا.
إن ضيق المسافة بين القارئ وبين العمل الأدبي يعكس ضيق مؤسسة الأدب الأكاديمية التي ترى أن بعض أنواع النصوص والقراءة هو المقبول.
يظهر كلا الناقدين نفورا من التفكير المنهجي، ويتجاهل كلاهما بطرقه الخاصة موقع القارئ في التاريخ، لأن القراء، وهم يواجهون النصوص لا ينطلقون من الفراغ طبعا: كل القراء يتموقعون اجتماعيا وتاريخيا، ومن تم فإن هذا الواقع يصوغ بعمق، طريقة تأويلهم للأعمال الأدبية، ويعتبر آيسر على وعي بالبعد الاجتماعي للقراءة، إلا أنه يختار التركيز بشدة على مظاهرها الجمالي على أن أحد الأعضاء البارزين تاريخيا في مدرسة كونسطانس هو روبرت ياوس الذي يسعى في إطار الموضة الكاداميرية إلى موضعة العمل الأدبي في “أفقه” التاريخي وفي سياق المعاني الثقافية التي أنتج فيها، ثم بعدها يستكشف العلاقات المتغيرة بين هذا وبين الآفاق المتغيرة لقرائه التاريخيين. والغاية من هذا العمل هي إنتاج ضربة جديدة من تاريخ الأدب، تاريخ يركز على المؤلفين والمؤثرات والاتجاهات الأدبية وكذا على الأدب كما حددته وأولته لحظات تلقيه التاريخية المختلفة.
وخلاصة القول، إن جمالية التلقي هي عبارة عن ثورة ضد شعرية النص التقليدي، حيث غيرت طبقاته التركيبية، والنحوية والدلالية، جعلت منه عتبة مفتوحة قابلة أن تستوعب شرائط المجتمع، لأن القارئ لا ينبغي أن يمحى، بل يكون إما ظاهريا أو ضمنيا أو واقعيا أو سيكولوجيا أو نفعيا، فإتيه يكتب هذا العمل، وبواسطته سيتخذ العمل المدروس شعرية جديدة، تغاير ما هو ثابت وجامد فالكتابة هي الواسطة بين الذات واللغة، وهي تأريخ للذات بواسطة اللغة، وماهية البحث عند الحرية، فبواسطة هذه الأخيرة ستجعل كل القراءات خاضعة للتأويل وللتفكيك، فالقارئ هو السيد والمجدد والمؤول للنص وممكناته، لذا عمل ياوس وإيزر وغدامير وأمبيرطو إيكو بتفكيك النصوص من قيودها البنيوية والسيكولوجية والاجتماعية وجعلها أرضية مرتبطة بالقارئ، فهو السيد، والعالم والوجود، والحياة، فهو الذي يشعل النور في الظلام، ويزرع الاختلاف في الائتلاف، ويكور الوحدة في التعدد، والتحول في الثبات.
وشكرا
إنجاز:
بن المداني ليلة
الغزيوي أبوعلي
الهوامش:
(1)- دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد: 7، السنة 1992، ص: 7.
(2)- دراسات سيميائية أدبية لسانية، العدد 7، السنة 1992، ص: 7.
(3)- مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية (دراسات سال)، عدد خاص حول جمالية التلقي، العدد: السادس – خريف – شتاء، 1992، المطبعة: النجاح الجديدة – البيضاء، التوزيع: شوسبريس – البيضاء.
(4)- دراسات سيميائية أدبية لسانية (دراسات سال)، عدد خاص حول جمالية التلقي، العدد 6 خريف – شتاء 1992، مطبعة النجاح الجديدة البيضاء، توزيع شوسبريس – البيضاء، ص: 13.
(5)- المرجع نفسه.
(6)- المرجع نفسه، ص: 29.