حوار صحيفة “الأيام” الأسبوعية مع الدكتور عبدالله ساعف

حوار صحيفة “الأيام” الأسبوعية مع الدكتور عبدالله ساعف

بداية، كيف تقيم مرحلة حكم الملك محمد السادس لعلمغرب بعد مرور ربع قرن على توليه مقاليد الحكم؟
هذه المرحلة عرفت تطورات كثيرة كمية ونوعية وأيضا بنيوية تتحكم في مسارات المغرب في عدة حقول على الأمد المتوسط والبعيد. هي حقبة لديها نوع من الوحدة في الترابط بين مختلف الأعمال وهي أكثر من استراتيجية في التصور، كما عرفت تراكمات ذهبت في اتجاه ترسيخ الدولة المغربية وأيضا في إحداث تغيرات جوهرية في صورة المغرب داخليا وخارجيا وفيها العديد من الأعمال المتعددة التي يمكن قراءتها بأشكال مختلفة متناقضة أحيانا ولكن من الواضح أن حتى الجغرافيا المؤسساتية تغيرت وتهيكلت بشكل مختلف مقارنة مع الماضي كما أن الحركة الاجتماعية تغيرت أيضا وهذا الأمر ينطبق أيضا على الاقتصاد الذي عرف تطورا نوعيا، وأكثر من ذلك فهي حقبة تميزت بالنسبة لمحيطنا بإشكالات كبيرة سواء من حيث نشوب الحروب الأهلية وعدم الاستقرار وتزايد المخاطر المتعددة، لكن المغرب نجح نسبيا في مواجهة هذه المخاطر والتكيف والتعامل معها بشكل جدلي وأحيانا بنوع من النجاح ومن هنا نستخلص أن شرعية الدولة تقوت وبرز ذلك في مناسبات كبيرة عشناها جميعا بفضل الإجراءات التي تم اتخاذها خلال مختلف الأزمات المتتالية، ليس فقط خلال فترة الوباء أو كارثة الزلزال، بل أيضا خلال محطات مختلفة أبانت عن قوة ومشروعية أدوات عمل الدولة . تقوى الاندماج الوطني، ما جعل الجميع يتحدث على أن البنية التي ترتكز عليها الدولة تغيرت وبأن هناك إطلاق لدينامية جديدة غير مسبوقة خاصة في السياسات العمومية، وبالتالي فإنني أرى بأن مغرب اليوم يختلف عن مغرب الامس سواء من حيث قدراته التفاوضية تجاه العالم التي تضاعفت أو تجاه مكوناته الداخلية من حيث مكانته وموقعه وقوته الاقتراحية والمادية والرمزية.

ما هي أوجه الاختلاف التي تميز طريقة تدبير الملك محمد السادس للحكم مقارنة مع سلفه الملك الراحل الحسن الثاني؟
طبعا لكل مرحلة خصوصيتها والأسلوب يختلف بين الملكين، مرحلة المرحوم الحسن الثاني كان فيها بناء المغرب والسعي إلى توفر البلاد على شروط الانطلاق وبناء الإطار الذي سيتم العمل داخله مستقبلا، لكن في مرحلة الملك محمد السادس انطلقنا من هذا الإطار وتم العمل في عدة مجالات حيوية مع التركيز على ملفات استراتيجية خاصة بطبيعة المرحلة و هي أعمال تجعلها مختلفة عن مرحلة الحسن الثاني التي كانت مخصصة لوضع الشروط الأساسية التي بدونها لم نكن لنعرف التوجهات والمسارات الحالية.

منذ مجيئه إلى الحكم، اهتم الملك محمد السادس بطي صفحة الماضي وتجاوز تداعيات الصراع الذي كان قائما بين النظام وبين معارضيه من أحزاب وحركات إسلامية، فكيف نجح هذا الامر في منح الملكية بعدا جديدا؟
خلال المرحلة الأخيرة لحكم الحسن الثاني وقع اندماج الفاعلين السياسيين بما فيهم المعارضين خلال التسعينات وعند وفاته كانت تقريبا كل الأطراف مدمجة والهوامش التي كانت خارج النظام أو ما يمكن أن نطلق عليهم “المعارضون الرادكاليون للنظام” كانت محدودة إن لم تكن ضيقة. طبعا عند مجيء الملك محمد السادس تم إدماج حتى هؤلاء المعارضين لكن ظهرت معارضات أخرى بشكل آخر ذات طبيعة سياسية و ثقافية ودينية وغير دينية ومعارضات بشكل آخر لأن لكل مرحلة خصائصها ولا يمكن أن نقول بأنه ليست هناك معارضات لكن الاندماج النسبي الذي حدث في المرحلة الأخيرة من عهد الحسن الثاني خفف من وقعها، كما أن محمد السادس وسع هذه المصالحة مع المعارضة والقوى والتنظيمات التي كانت راديكالية وتم قبولها في الساحة كفاعلين شرعيين وإدماجها تدريجيا.

ما تقييمك للبعد الاستراتيجي الذي اعتمده الملك محمد السادس في معالجة بعض الملفات، خاصة ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي؟
بعد وصول الملك محمد السادس للحكم كانت هناك موجة من السياسات الاستراتيجية التي تؤسس لطبيعة الحكم خاصة ذات الصبغة الاقتصادية(مجالات الفلاحة, الصناعة,التجارة, ألطاقات المتجددة, الرقمي…) و الاجتماعية ( الصحة ,التكوين المهني,التشغيل…), وكانت هناك أكثر من 20 اسثراتجية في هذا السياق إلى جانب كل ما يتعلق بالشأن الأمني، و ساهمت كلها في وضع مرجعيات السياسات العمومية التي تناولتها الحكومات المتتالية والتصورات التي ترشد مختلف الفعالين إلى أين يسيرون وكيف تنجز الأهداف المرسومة, وهذه كلها من الناحية المنهجية كان لها دورها الذي لا يستهان به، ولما استنفدت ووصلنا إلى نهايتها بدأ الحديث عن النموذج التنموي الجديد وكانت لحظة مفتوحه للتفكيرالجماعي ولو أنه لم يكن لها الأثر الذي كنا ننتظره.

هل يمكن الحديث اليوم في ظل مملكة محمد السادس عن وجود أولوية لترسيخ وجود الدولة على حساب الديمقراطية؟
في نهاية التسعينات كنا نسمع حديثا قويا عن “الانتقال الديمقراطي” وعن “تقوية المكتسبات الديمقراطية” وتطويرها، لكن كل ما جرى بعد ذلك خلال الربيع العربي وبعده، أدى إلى أن يتم تغليب مكانة ومشروعية الدولة على هم الانتقال الديمقراطي أمام ما حدث للعديد من الدول التي ضعفت أو تفككت وعاش بعضها حروبا أهلية، وخاصة بعد محنة الوباء والكوارث الطبيعية والتي أصبحت تفترض وجود دولة قوية كمطلب ولو أنه غير معلن عنه، لكن في تصور الناس عنده أهمية حيوية.

ألا يمكن القول بأن اتجاه الدولة إلى تقوية موقعها نابع من تراجع دور الأحزاب في تأطير الجماهير وتحولها إلى آليات انتخابية تبحث عن المقاعد والمواقع أكثر مما تسعى إلى تأطير الجماهير وقيادتها؟
هناك عدة عوامل وراء المشاكل التي تعيشها الأحزاب منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو موضوعي, عوامل داخلية و عوامل خارجية . والسؤال المطروح هو هل يمكن تطوير مجتمع يمكن أن يتخلى عن الأحزاب السياسية إذا كنا نسير على أساس الفرضية الديمقراطية وعلى النهج الديمقراطي وبالتالي هل يمكن العيش دون أحزاب وهل هناك إمكانية أو احتمال يمكن حتى التفكير فيه؟ … لهذا فقضية الأحزاب لا يمكن ربطها بالبحث عن المواقع فقط أو المقاعد إذ لا يمكنها المشاركة في الحياة السياسية إذا لم يكن هناك حد أدنى من التمثيلية لكن ليس هذا هو السؤال الرئيسي. ربما ضعف الأحزاب اليوم يرجع كذلك إلى ضعف النخب التي تقودها، وأيضا إلى تغيرها بعد أن توارت النخب السابقة إلى الوراء سواء بسبب الشيخوخة أو المرض أو حتى الرحيل الأبدي، وعجز الخلف عن التوفر على نفس الكاريزما التي كانت لدى القيادات السابقة، فضلا عن أن ذلك تزامن مع تقوية سلطة الدولة لينعكس ذلك على تراجع الفاعل الحزبي ، ومع ذلك فإن هذا الوضع لا يمكن أن يجعلنا نروج لإمكانية تجاوز دور الأحزاب التي تعد حيوية بالنسبة لأي مجتمع.

كيف ترى ملف الصحراء في ظل مملكة محمد السادس، وهل نجح المغرب خلال هذه الفترة في ترسيخ وحدته الترابية، خاصة بعد إقرار مقترح الحكم الذاتي، وهل العودة إلى الاتحاد الإفريقي بعد عقود من مغادرته ساهم في ترسيخ العمق الإفريقي للمغرب؟
أعتقد أن التوجه نحو إفريقيا هو توجه استراتيجي مهم ومكتوب في الكتاب الأبدي للمغرب منذ عهد السعديين وإذا عدنا إلى كتاب “نزهة البادي بأخبار ملوك القرن القرن الحادي” لمحمد الصغير الإفراني، وهو من الكتب التي تتناول أخبار ملوك الدولة السعدية، نجده يخصص صفحات يلخص فيها توجه المغرب نحو إفريقيا منذ زمن بعيد، خاصة زمن أحمد المنصور الذهبي الذي جمع رجال دولته في مراكش ، وخاطبهم حسب هذا المؤرخ، وقال لهم أن لدينا صعوبة في الذهاب إلى الشمال لكون جزء من الرأي العام المغربي في تلك الفتر ة كان يطالب باستعادة الأندلس وجزء كبير من الجيش المغربي كان مكونا من الأندلسيين، كما أن الشرق يتواجد فيه الأتراك لا يبدو أنه يستحق التركيز، وغربا المغاربة رغم توفرهم على أسطول بحري مهم، فعلاقتهم بالبحر ليست مقنعة، لذلك اتخذ قرار التوجه جنوبا وتقوية علاقاته مع إفريقيا وهي العلاقات التي كانت قوية جدا على كل المستويات.
إذن من خلال هذا المثل أريد أن أؤكد أن التوجه نحو ترسيخ العمق الإفريقي كان حاضرا على الدوام كهدف استراتيجي في أجندة حكام المغرب، ومن بينهم طبعا الملك محمد السادس الذي يكفي القول بأنه وخلال ربع قرن من حكمه فاق عدد زياراته لإفريقيا الـ50، كما تم خلال هذه الفترة توقيع أزيد من 1000 اتفاقية في كل المجالات، هذا دون الحديث عن الاستثمارات المغربية في عدد من البلدان الإفريقية وهي كلها مؤشرات تكرس هذا التوجه المغربي نحو عمقه الإفريقي، بل إن حتى موقعنا في العالم يجعل عددا من الدول والقوى العظمى تتخذ قرارات تقوية علاقتها معنا بسبب أن المغرب هو بوابتها نحو إفريقيا، وهذا التوجه كرسه الملك بصبر كبير وبعقلانية وكأني به يطبق أو يستحضر مقولة كانت ساءدة في عهد أحمد المنصور الذهبي “القوافل أفضل من الكارافيل” (les caravanes peuvent l’emporter sur les caravelles).
أما بخصوص القضية الوطنية أعتقد أن هناك أداء قويا فيه يقظة وفيه معالجة للملف بكل تفاصيله وعلى عدة مستويات والزمن سيبين ما هي المستويات الأكثر فعالية، لكن من الواضح أن هناك تدبيرا صعبا ومعقدا لأن الخصوم لديهم إمكانيات ويلجؤون لجميع الوسائل والمغرب ينجح دائما في التكيف مع التحديات التي يواجهها.

كيف ترى الاهتمام الذي أولاه الملك محمد السادس للقضايا الاجتماعية منذ توليه العرش وهو الذي أطلق عليه المغاربة لقب “ملك الفقراء”، مختلف المبادرات التي قام بها في هذا الإطار انطلاقا من إعلانه للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية يوم 18 ماي 2005، ووصولا إلى الإعلان عن مشروع الحماية الاجتماعية، وأخيرا الدعم الاجتماعي المباشر؟
الدولة الاجتماعية تسير في طريقها منذ بداية هذه المرحلة، وأعتقد أن ورش الحماية الاجتماعية الذي أعلن عنه قبل مرحلة كوفيد، مهم خاصة وأن الوباء أدى إلى إيلاء الأهمية لاعادة النظرفي القطاع الصحي وطريقة التعاطي معه، خاصة وأن تدبير يوميات الوباء وفتح آفاق التعاون مع الصين على وجه الخصوص خلال تلك الفترة، مثلا، جعل المغاربة لا يشعرون طوال أيام الوباء بالحاجة إلى الخارج، بل حتى بالنسبة للتلقيح، وخلافا للدول المجاورة وأخرى، لم يطرح لنا مشكلا لأن المغاربة قادوا مفاوضات ناجحة مع الأطراف التي وفرت التلقيحات، كما تمت قيادة تدبير هذه المرحلة بطريقة نموذجية سواء من حيث الدعم الذي قدم للمتضررين من انتشار كوفيد أو غيره، وبالتالي هنا بدأت تبرز إشكالية الدولة الاجتماعية التي لا ينبغي حصرها فقط في هذه الإجراءات ولكن يجب أن تصبح نهجا يطبع بعمق هذه الإجراءات.
ما تقييمك للدعم الاجتماعي المباشر، وكيف ترى طريقة تدبيره من طرف الحكومة الحالية؟
بصراحة لم أتابع عن قرب هذا الجانب، وهناك دراسات حول هذا الدعم الاجتماعي المباشر قام بها بعض طلبتي الباحثين. صحيح أن هذا الدعم يجب دراسته بعمق، وأعتقد أنه يجب التفكير في طريقة أفضل من الطريقة التي تطبق حاليا لأنه لم يعد من السهل في مغرب اليوم أن يقوم أي شخص بما يريد، كما أن المراقبة اليوم أصبحت مشددة والثقافة الرقمية ساهمت في فضح أي اختلال وهناك مجتمع مدني له حضور لايستهان به, إلى جانب مؤسسات الدولة التي تراقب الأموال وكيفية صرفها، لكن كل هذا يؤدي بنا إلى نوع من خلط الأوراق وبالتالي هذا الملف وإن كنت مقتنعا بضرورة إعادة النظر في طريقة تفعيله إلا أنه من السابق لأوانه الحكم بمدى نجاعة هذه الطريقة أم لا.

عرف عهد محمد السادس المئات من الحركات الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي، لعل أبرزها احتجاجات حركة 20 فبراير وحراك الريف، فإلى أي حد نجحت الإجراءات المتخذة في الاستجابة لبعض مطالب هذه الحراكات؟
أي مجتمع حي لا بد أن يعرف هذه الحركات الاجتماعية وهي دليل على أن هناك حياة مؤسساتية اقتصادية وسياسية واجتماعية وهناك ردود أفعال الأفراد والمجموعات على تلك السياسيات. تصور مجتمعا ليست فيه هذه الحركية ومُلَّجَّمْ. فماذا سيحدث في هذه الحالة؟!. تحولات عميقة عرفها المجتمع أدت إلى ظهور حركات اجتماعية البعض منها تقليدي والبعض الاخر جديد ،لكن أعتقد أن حركة 20 فبراير جاءت في سياق انتفاضة مجتمعات الضفة الجنوبية للمتوسط ولم تكن معزولة لكن ما ميزها هو أنها كانت حركة احتجاجية تقع في نفس الوقت بحوالي 80 مدينة وبأعداد ليست بسيطة وكانت تتكرر بانتظام طيلة أسابيع طويلة وبمواعيد وبدون قيادات حقيقية رغم أن بعض القوى لعبت فيها دورا أساسيا، وبالتالي أعتقد أن الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب. وكما يقال في نظرية “الأدوار” باعتبارها نظرية من النظريات السياسة المتداولة، فإن مثل هذا الحراك يبين للمسؤولين ما يجب فعله على مستوى الشأن العام لمعالجة ملفات ما, فعلى المدبر أن يلتقط مطالب الحركات الاجتماعية التي يمكن القول أنها بمثابة قوة اقتراحية قد تساعد على اتخاذ إجراءات أو بلورة سياسات تستجيب للحاجيات التي يحملها المحتجون.

كيف ترى الوضع التعليمي اليوم وخاصة الإجراءات الإصلاحية التي يخضع لها، وإلى متى سيكون هذا القطاع مجالا للتجارب، وهل عجزنا إلى هذا الحد من إيجاد نموذج تعليمي يتماشى مع الخصوصية المغربية؟
أعتقد في موضوع التعليم تحديدا، بأن الأمر، أحيانا، يتجاوز الحكومات لأن هنا إرادة لإصلاحات شمولية كما تم إحداث لجان وإطارات خاصة لإصلاح أوضاع التعليم. وفي رأيي مسألة الإصلاح هي مسألة عادية ولا تنتهي، ولا يمكن أن نتصورأنه يمكن أن يكون هناك إصلاح نهائي وشامل بين عشية وضحاها يتم معه تغيير الأوضاع بشكل جدري، لأنه أحيانا الإصلاح الكبير الشامل النهائي هو الذي يسكن في الادهان لكنه عمليا الممكن هي إصلاحات متتالية وأعتقد أن لجنة إصلاح التعليم التي بدأت العمل في مرحلة حكومة التناوب والتي ترأسها المرحوم عبدالعزيز مزيان بلفقيه وضعت تواريخ لتحقيق أهداف معينة. كما أعتقد أن الإصلاح لا يمكن أن يتم سوى في الفروع والقطاعات المرتبطة بالتعليم، أي مرة إصلاح التعليم الإعدادي ثم الابتدائي أو الثانوي وهكذا، أما أن نقوم مباشرة بإصلاح شامل فذلك مجرد يوتوبيا , كما أن هناك إفراط في التشخيص السلبي للوضع الحالي . علما أنه في مرحلة ما كان بعض الناس من مصلحتهم أن يقدموا نظرة سوداوية عن المدرسة العمومية رغم أننا نجد فيها الجيد والرديء، كما أننا نجد فيها الكثير من نقط التميز وهناك أساتذة ومدراء ومفتشين وغيرهم نموذجيين . فضلا عن أن التحولات الاجتماعية التي أدت إلى اتساع قاعدة الطبقة الوسطى والتي أصبحت طبقة مستهلكة باستمرار لكل المنتجات بما فيها التعليم جعل التعليم يعرف تحولات هامة بحكم أن المظهر الاجتماعي لأفراد هذه الطبقة تحديدا أصبح مرتبطا بطبيعة المدرسة ( عمومية, خاصة, أجنبية…) التي يتابع فيها أبناؤهم دراستهم، علما أن التعليم العمومي، في رأيي، يستحق تقديرا أكثر مما هوعليه الأمر اليوم.

ما رأيكم في المبادرات المتخذة من طرف الملك فيما يتعلق بالجوانب المتعلقة بالسعي نحو تحقيق السيادة، سواء تعلق الأمر بالسيادة الطاقية، أو السيادة الغذائية، في سياق يتسم بتداعيات جائحة كوفيد 19 والحرب الروسية الأوكرانية فضلا عن الجفاف؟
من الواضح أن الأوضاع الاقتصادية تغيرت وهناك موارد مادية كثيرة وهناك تراكم مشاريع كبرى تنجز منها العديد من المشاريع في مجالات الزراعة واستعمال الطاقات المتجددة وتحلية مياه البحر وأيضا الحماية الاجتماعية, إلخ… التي تعني أيضا الحفاظ على القوى العاملة، يعني هذا أن هناك مجموعة من السياسات الكبرى تتجاوز كل ما كانت تقدمه برامج الأحزاب الانتخابية. لا أقول أن هناك وفرة في الإمكانيات ولكن ليست هناك أيضا ندرة، لكن هناك إمكانيات لا بأس بها والمغرب استطاع إنجاز مكاسب لم تتمكن من تحقيقها حتى بعض الدول النفطية، وهذه من الملاحظات الأساسية بالنسبة لي، لأن هناك استقرار على مستوى تدبير التغيرات الاقتصادية والتعامل معها وطبعا هذا كله لا يخفي بعض الظواهر المركزية مثل الفقر والهشاشة وبعض الاختلال في تدبير الشأن العام.
في ا وتوجهات الدولة نحو محاربة الفساد والاهتمام أيضا بهذا الجانب وطبعا هذا كله يستحق دراسة معمقة لأنه إلى أي حد يمكن لمعالجة الدولة أن تكون فعالة خاصة في ظل استمرار ظاهرة الرشوة التي تتجاوز الأفراد ولها طابع مجتمعي عريق في بلادنا بحكم انها مطبوعة بنيويا بعلاقات الزبونية ، لكن من الناحية الاقتصادية كواحد من الجيل الذي عاش تحولات الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات وبداية هذا القرن، لا يمكن سوى أن اسجل هذا التغير الجوهري الذي يحدث في الاقتصاد ونوعية الاقتصاديين اليوم مقارنة مع الأمس حيث ذهب عهد كبار رجال الأعمال الذين استطاعوا بناء ثروات كبيرة، لكن هناك جيش عرمرم من الموارد البشرية العاملة في الحقل الاقتصادي والمالي يبدو أنها ناجحة في إدارة الثروات.

بداية عهد الملك محمد السادس عرف الترخيص لإنشاء مجموعة من الأحزاب السياسية الجديدة، فلماذا فشلت كلها في أن تجد موطئ قدم لها داخل الساحة بعد مرور ربع قرن على ميلاد بعضها؟
أعتقد أن لدينا اليوم 35 حزبا ويعتبر كثير من المتتبعين بأن عدد الأحزاب لدينا كبيرجدا لكن ما ينبغي معرفته أن كل الدول التي تعرف نفس وضعنا عاشت هذه التجربة. فمثلا في البرتغال عندما حدث التغيير الجوهري بعد ثورة القرنفل كان عدد الأحزاب بها أزيد من 100 حزب ونفس الشيء حدث في تونس بعد الثورة. أعتقد أن المشكل ليس في الكم, المهم أن يجد المجتمع عبر الأحزاب تعبيرات عن الآراء و التيارات و القوى التي تسكنه, في النهاية لن يبقى سوى الأصح والأحزاب التي لا تفرض نفسها ستموت ولن يبقى سوى الصالح أو القادر على الاستمرار، المشكل ليس في العدد. صحيح أن بعض القوى ظهرت مثل حزب الأصالة والمعاصرة الذي ظهر عام 2009 وفرض نفسه، لكن ما سجلناه في هذا المجال هو اعتراف الدولة ببعض الأحزاب التي كانت ممنوعة قبل ذلك مثل حزب النهج الديمقراطي وأيضا البديل الحضاري والحركة من أجل الامة، والأخيران سحب منهما الترخيص فيما بعد، لكن أعتقد أن عدد الأحزاب لم يزدد كثيرا لكن زادت بعض الحساسيات التي أوصلتنا إلى 35 حزبا، وكانت هناك محاولات لتجميع بعضها ، كما أن النقابات أيضا وجمعيات المجتمع المدني ازداد عددها وهذا سيؤدي إلى خلق نوع من التوازن لأن الدولة محتاجة إلى مثل هذا التنوع الذي تكرس من خلاله السيادة والخصوصية المغربية.

ما تقييمك لتجربة الانتخابات في مملكة محمد السادس وهل احترمت فيها إرادة الناخبين؟
ما يميز هذه التجربة هو أن الانتخابات تتم بانتظام وتعكس موازين القوى ما بين الخط الديمقراطي الموجود داخل المجتمع وما بين من بقي متمسكا بسلطة الدولة وهيبتها وضرورة ضبط العمليات السياسية ومن بينها الانتخابات.
منذ عام 2002 إلى الآن عرفت الانتخابات تموجات، وحسب المراقبة , عفوا الملاحظة, الوطنية و الدولية ، فإن الانتخابات التي عرفها المغرب مرت في شروط ليست سيئة مقارنة بما كان عليه الأمر من قبل من تدخل السلطات والتزوير المباشر، لكن ما يحسب لها منذ أول انتخابات جرت في العهد الجديد عام 2002 ثم انتخابات 2007 و2011 و2016 ووصولا إلى انتخابات 2021، أنها جرت بانتظام ولم تعرف أي تأجيل حتى في مرحلة انتشار وباء كوفيد الذي دفع عددا من الدول إلى تأجيل الانتخابات فيها، لكن مع ذلك فالمغرب كان على موعد مع الاستحقاق الانتخابي، وهذا شيء يحسب له، فضلا عن تكريس عملية متابعة كل صغيرة وكبيرة من طرف المراقبين المؤسساتيين وممثلي الأحزاب المشاركة والمجتمع المدني، لكن دائما هناك فضاءات و إمكانيات للمناورة و التجاوز ليست لدينا حجج حولها.

إلى أي حد نجح المغرب في ترسيخ حقوق الإنسان وهل نجح في طي صفحة الماضي، خاصة بعد تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، وماذا عن فضاء الحريات، وهل أصبحت أكثر ترسيخا رغم أن بعض التقارير الدولية لا زالت تتهم المغرب بخرق حقوق الإنسان؟
أكيد بأن هناك بعض الملفات التي تم تدبيرها بعقلية لا تأخذ بعين الاعتبار الجانب الحقوقي والوعي الحقوقي والخطوات التي قام بها المغرب في هذا المجال، كما أن هناك ملفات تشكك في هذا المسار، لكن في رأيي فإن الحركة العامة تسير في اتجاه لا يمكن التشكيك فيه، لإن ما اكتسبناه خلال هذه السنوات نلمس بأن هناك تقدما ليس فقط في الترسانة القانونية والحقوقية والثقافة والممارسات الحقوقية، ولكن أيضا حتى على مستوى الممارسة اليومية، فعندما تتحدث اليوم مع شرطي في الشارع فأنت تستند إلى المادة الفلانية والقانون العلاني وهذا لم يكن من قبل وكان هناك الكثير من التعسف. وأنا أعتقد أنه على المستوى العام لمنظومة حقوق الإنسان ثقافة وممارسة، فإن هناك تقدما، بالرغم من أنه لا زالت هناك ملفات محورية تفسد هذه الصورة. وأتساءل هل من يقوم بهذه الأعمال يعرف أنه يشوه صورة المغرب الحقوقية مع أنه يمكنه تدبير هذا الملف بشكل أفضل؟!، لأجيب في نفس الوقت أنه ربما يضع أولويات ولديه رسائل يريد تمريرها عبر هذه الحالة أو تلك لكن هذا لا يبرر الخروقات، وبالنسبة للمتتبع للسياسيات العمومية في مجال حقوق الإنسان فسيجد أن هناك من لا يهمه الظهور بمظهر المستبد لأن لديه مصلحة أقوى تتجاوز النقط الجيدة التي تمنحها المنظمات التي تصنف الدول في المجال الحقوقي، وعندما يأتي اليوم الذي سيتم تحسين طريقة تدبير هذه الحالات وتخضع لمنطق أكثر صرامة من حيث احترام الشرعية وحقوق الإنسان والارتقاء بها سنكون قد وصلنا إلى المبتغى لأنه لم نصل بعد إلى خلق نوع من التوازن المقبول بين الهاجس الأمني والدفع بالحريات لكي تشمل مختلف مستويات المجتمع وأركانه وهذا التوان سيأتي بشكل تدريجي وطبيعي, و قد يتجاوزالأرادات مع نضج المجتمع ولا يكفي أن نقول أن الدولة لا تحترم لكن يجب على المجتمع أيضا أن يعي و يحترم.

اترك رد