المراجعية الدينية وإمارة المؤمنين بالمغرب

الدكتور سمير الوصبي : تخصص الفكر الإسلامي والسياسة الشرعية

من يتنكر لمرجعية المغرب الدينية الإسلامية، وقيام كيانها الموحد على أساس مفهوم إمارة المؤمنين سيسعى من حيث يدري أو لا يدري إلى فوضى لا يمكن التنبؤ بنتائجها الوخيمة على الدولة والمواطن المغربي على السواء، افتتحت المقال بهذه الفكرة حتى تساير القارئ في جل ما سيرد من استدلال نثبته بالدليل اللازم على ضرورة الإبقاء على مرجعية المغرب الدينية الإسلامية كقناعة تأطيرية، وإمارة المؤمنين كمؤسسة تنظيمية تسهر على تحقيق الوحدة والأمن في البلاد.
لاشك أن الدول التي تعاقبت على حكم المغرب تبنت الإسلام دينا رسميا له أحكامه ونواحيه الروحية. فانتمى مجموع أو أغلب الساكنة إلى هذا الكيان الواحد، فكان الضامن لعدم التفرقة والشتات لأن الخطاب حينها سيكون موحدا، وبالتالي سيكون الاختلاف في الآراء مقبولا، بدل الخلاف المولد للطوائف المتطاحنة للوصول إلى فرض توجهاتها بالقوة المؤدية إلى الفتنة غالبا، وان ورد سؤال مقرره: أن لا وجود لسيادة دين يعتقد به كافة قاطني الوطن الواحد بل هناك اثنيات عدة فهل يسود دين على حساب المعتقدات الأخرى؟ سؤال يطرح استفسارا، ويطرح أيضا بديلا هو الالتجاء إلى القوانين والمواثيق الدولية كمرجعية يراد دسترتها في التعديلات الدستورية، ويأتي كخطاب لبعض الأطراف من دعوتها إلى سمو القوانين والمواثيق الدولية على القانون الداخلي، أمر يدعونا إلى التريث بدل المخاطرة، فالشواهد الحالية لما تعيشه بعض الشعوب العربية اكبر دليل على ما نقول، إن الإسلام مبنى في أساساته على احترام الآخر ومن مسماه تبدو دلالات كثيرة. فمنذ نشوء الدولة المغربية وعموم ساكنة المغرب لم تتقبل رغم وفود الإثنيات الأخرى سوى الإسلام اقتناعا به وبتعاليمه، وجوابا على دعوى من ينادي بتحكيم القوانين والمواثيق الدولية نرد سؤال من أي أيديولوجيا فكرية تم تشكيل هذه العقود والمواثيق الدولية ألم يكن للدين السماوي أو البلاغ السماوي- القرآن، الإنجيل، التوراة- دوره الأساس في الاستمداد منه؟ بهذا التوضيح نكون قد أقررنا بسمو القانون الداخلي والايديولوجيا الذاتية باعتبارها الأصل عن عداها، فإقرار المغاربة بمرجعية إسلامية لم يقف عند هذا الحد بل ربطوا مرجعيتهم الدينية بثنائية الاستدلال العقدي الأشعري والفقه المالكي زيادة في التوجيه ودعما لتوجه المغاربة إلى انتمائهم لمذهب أهل السنة والجماعة، وحتى نبين هذا الاختيار المذهبي بإيجاز، فالدين له جانبان فقه: أي مسائل العبادات: صلاة، صوم،… وعقيدة: بحث في قضايا الإيمان، واستيعاب لمسالة الإمامة لاعتبار أساس أن التاريخ الإسلامي تشكل حول مفهوم الإمامة وفي هذا يقول الشهرستاني: «ما أريق دم كما أريق على الإمامة»، فكان بعد نظر العلماء أن الأسلم للدولة أن تتبنى فقها واستدلالا عقديا محددا درءا للفتن والصراع الناشئ عن الاختلاف في الفهم والتأويل، أما اختيارنا لفقه مالك فهو مأخوذ من مكان الوحي ذاته – المدينة المنورة. ولان وجهة التجار والحجاج المغاربة كانت تقصد المدينة، فكانوا يجدون في طريق رحلتهم فقه مالك، ولاهتمام الفقه المالكي بالنواحي السلوكية زاد تعلقهم به، والأكيد أن تعاليم الإمام مالك وافقت طباع المغاربة، هي أسباب ذاتية وأخرى موضوعية إذن اجتمعت لتؤسس اختيار المغاربة للفقه المالكي، وفي جانب العقيدة اختار المغاربة الاستدلال العقدي الأشعري لأمر أساس هو انتماء أبي الحسن الأشعري لاتجاه سني معتدل، ولأن الأشعري تاريخيا نجح في حل الخلاف بين المعتزلة والحنابلة في مسألة فكرية أدت إلى حدوث فتنة بين المسلمين، والأمر الأهم في هذا الاختيار أن المذهب العقدي الأشعري ينبني على مبدأ السلامة وعدم الخروج على الإمام طلبا للسلامة من الفتنة الكبرى، وهي دعوة نبثها قصد دسترتها ليس فقط المرجعية الدينية الإسلامية للمغرب بل حتى الالتزام بالفقه المالكي والعقيدة الأشعرية، تفاديا لأي اختراق مخالف لاختياراتنا.
وفي مسألة إمارة المؤمنين فلا يمكن الغائها والتخلي عنها والاكتفاء بمفهوم الملكية الدستورية لانه انقلاب على السلطة الروحية التي يمارسها امير المؤمنين كظل الله في الارض تحقيقا وتحققا لمفهوم الخلافة واعمار الأرض لذا سنعمل بالبحث العلمي على بيان المفهوم شرعا وقانونا. فموضوع الإمامة هذا من أدلة الترابط والتلازم بين الأحكام العقدية والفقهية، وإن كلاً منهما ملازم للآخر وقائم عليه. ولذلك فقد جعل الله عز وجل طاعة الأئمة والنصح لهم وعدم الخروج عليهم من الطاعات التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها بالعذاب الأخروي يوم القيامة.
وحتى نتعرف على موضوع الإمامة سنحدد أولا دلالة مفهوم الإمامة والمفاهيم المرادفة له. الإمامة في اللغة مصدر من الفعل ( أمَّ ) تقول: «أمَّهم وأمَّ بهم: تقدمهم، وهي الإمامة، والإمام: كل ما ائتم به من رئيس أو غيره».
ويقول ابن منظور: «الإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين. والجمع: أئمة، وإمام كل شيء قيَّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وأممت القوم في الصلاة إمامة، وائتم به: اقتدي به. أما من حيث الاصطلاح: فقد عرفها العلماء بعدة تعريفات، وهي وإن – اختلفت في الألفاظ فهي متقاربة في المعاني، والمختار من هذه التعريفات ما ذكره ابن خلدون لأنه الجامع المانع في نظري، بقوله: «هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به».
وبيان ذلك أنه في قوله: (حمل الكافة) يخرج به ولايات الأمراء والقضاة وغيرهم، لأن لكل منهم حدوده الخاصة به وصلاحيته المقيدة، وفي قوله : «وعلى مقتضى النظر الشرعي» قيد لسلطته، فالإمام يجب أن تكون سلطاته مقيدة بموافقة الشريعة الإسلامية، وفيه أيضًا وجوب سياسة الدنيا بالدين لا بالأهواء والشهوات والمصالح الفردية، وهذا القيد يخرج به الملك.
وفي قوله: «في مصالحهم الأخروية والدنيوية» تبيين لشمول مسؤولية الإمام لمصالح الدين والدنيا لا الاقتصار على طرف دون الآخر.
وهكذا أخذت الإمامة معنى اصطلاحيًا إسلاميًا، فقصد بالإمام: خليفة المسلمين وحاكمهم، وتوصف الإمامة أحيانًا بالإمامة العظمى أو الكبرى تمييزًا لها عن الإمامة في الصلاة، على أن الإمامة إذا أطلقت فإنها توجه إلى الإمامة الكبرى أو العامة، كما أوضح ذلك ابن حزم رحمه الله.
ويكون الترادف بين ألفاظ: الإمام والخليفة وأمير المؤمنين: وإلى ذلك ذهب العلماء فجعلوها من الكلمات المترادفة المؤدية إلى معنى واحد فيقول النووي: «يجوز أن يقال للإمام: الخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين».
ويقول ابن خلدون: «وإذ قد بيَّنَّا حقيقة هذا المنصف وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإمام» ، ويعرف ابن منظور الخلافة بأنها الإمارة .
ويفسر أبو زهرة الترادف بين لفظي الخلافة والإمامة بقوله: «المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة وهي الإمامة الكبرى، وسميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي في إدارة شؤونهم، وتسمى إمامة: لأن الخليفة كان يسمى إمامًا، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم الصلاة» أي يأتمون به، وقد كان الخلفاء هم الذين يتولون إمامة الصلاة خاصة الجمع والأعياد لكن لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وضعفت الناحية العلمية عند الخلفاء، أخذوا ينيبون عنهم من يقومون مقامهم في إمامة الصلاة، وخطب الجمع والأعياد.
كما يفسر سبب اختيار هذه الألفاظ: الإمام، والخليفة، وأمير المؤمنين بأنه: ابتعاد بالمفهوم الإسلامي للدولة ورياستها عن النظام الملكي بمفهومه القديم عند الأمم الأخرى من الفرس والرومان المختلف اختلافًا أساسيًا عن المفهوم الإسلامي الجديد. هذا وقد كان الخلفاء الأوائل يلقبون بالخلفاء كما يلقبون بالأئمة، ومنذ خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه- استعمل المسلمون لقب (أمير المؤمنين) فيذكر ابن سعد في طبقاته أنه لما مات أبو بكر رضي الله تعالى عنه وكان يُدْعَى خليفة رسول الله قيل لعمر: خليفة خليفة رسول الله، فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة خليفة رسول الله فيطول هذا، ولكن اجتمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يدعى به من بعده من الخلفاء، قال بعض أصحاب رسول الله: نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر (أمير المؤمنين) فهو أول من سمي بذلك .
أما لفظ الأمير بإطلاق فقد كان مستعملاً في عهد النبي، لكن لم يكن مقصورًا على الخليفة، وإنما يسمى به أمراء الجيوش والأقاليم والمدن ونحو ذلك، وقد ورد في الحديث « من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني ».
ومن الملاحظ أن لفظ ( الإمامة ) يغلب استعماله عادة عند أهل السنة في مباحثهم العقدية والفقهية، بينما الغالب استعمال لفظ ( الخلافة ) في الكتابات التاريخية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المباحث – خاصة العقدية – قد كتبت للرد على المبتدعة.
فالشيعة يستخدمون لفظ الإمامة دون الخلافة، ويعتبرونها إحدى أركان الإيمان عندهم، ويفرقون بين الإمامة والخلافة، فهم يعتبرون الإمامة رئاسة دين، والخلافة رئاسة دولة، ويريدون من ذلك إثبات أن عليًا رضي الله تعالى عنه كان إمامًا زمن خلافة الثلاثة الذين سبقوه. وفي ذلك فصل للدين عن الدولة. وهذا لا يقره الإسلام. وممن ذهب إلى التفريق بينهما أيضًا الرافضة الباطنية، وبعض المعتزلة.
وأرجع بعض الكتاب المعاصرين سبب استعمال لفظ ( الإمامة ) عند أهل السنة إلى تأثر أهل السنة بالشيعة، ويرى بعضهم أن هذه التسمية من اختراعات الشيعة، وهذا غير صحيح لاستعمال المسلمين هذا اللفظ قبل انشقاق الشيعة عن الجماعة، ولوروده في بعض الآيات والأحاديث كما سبق، ولاستعمال الصحابةُ رضوان الله عليهم له.
ومما سبق في تعريف الإمامة يتضح لنا أن العلماء الذين تصدوا لتعريفها قدَّموا أمور الدين والعناية به وحفظه على أمور الدنيا، بمعنى جعل الثانية تابعة للأولى، وبيان أن سياسة الدنيا يجب أن تكون بالدين وشرائعه وتعاليمه، وأن فصل الدين عن السياسة مخالفة صريحة لتعاليم الإسلام ولشريعته الربانية، وأن سياسة الدنيا بالقوانين الوضعية أو بالآراء والشهوات النفسية مخالفة أيضًا للإسلام، فلا يجوز أن يطلق على هذا النوع من الحكم بأنه حكم إسلامي، أو متمش مع الشريعة الإسلامية، بل هو مخالفة صريحة لها لا يقره الإسلام.
ولهذا فرق العلماء بين الخلافة والملك، فيقول العلامة ابن خلدون في ذلك: « إن الملك الطبيعي: هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي: هو حمل الكاف على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ».
والفرق بين الخلافة والملك ثابت في الأحاديث الصحيحة الصريحة عن النبي من ذلك:
– ما رواه أهل السنن وغيرهم عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله عن النبي قال: « خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه – أو الملك – من يشاء ». وفي رواية: « ستكون الخلافة ثلاثون عامًا ثم يكون الملك».
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل إلى النبي عليه السلام فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك: أملكًا أجعلك، أم عبدًا رسولاً ؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد. فقال رسول الله: « لا، بل عبدًا رسولاً ».
وهذا يدل على أنه لم يكن ملكًا مع أنه إمام المسلمين بلا منازع. ومن الآثار ما روي عن سلمان رضي الله تعالى عنه سأل عن الفرقُ بين الخليفة والملك، فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك، وأما الخليفة فهو الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهل بيته، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله. فقال كعب: ما كنت أحسب في هذا المجلس من يفرق بين الملك والخليفة، ولكن الله ألهم سلمان الإجابة ).
فهذا من الفروق في نوعية سياسة الرعية، ومن الفروق أيضًا الطريق التي يتم بها الملك أو الخلافة، فالملك يتم عادة عن طريق القهر والغلبة والعهد من الآباء للأبناء ونحو ذلك، دون الرجوع إلى أهل الحل والعقد، لذا أوصى مستشاروا ملوك الدولة الإسلامية قديما إلى إضافة لقب أمير المؤمنين للملك الحاكم لاكتساب الشرعية الدينية إلا أنه بجذر بمن اتصف بهذا الوصف أن يلازم أفعاله والتزاماته الدينية وبالمظاهر الشعائرية التي يدركها عامة الرعية، وإلا وصف بنعوت تفتح الباب في إمكانية إلغاء لقب الأمير، ومن تم السعي إلى استبداله بمن هو أفضل منه، وهذا ليس نظر من يرون الخروج عن الحاكم فحسب بل حتى المتحفظون في مسالة الخروج عن الإمام يفتون في آخر المطاف بإمكانية تغييره إن لم يلتزم بأمر الله حفظا للمصالح، لأن طاعتة مرتبطة بطاعته هو لله عزوجل.
أما الخلافة فلا تكون إلا بإقرار أهل الحل والعقد، سواء عن طريق الاختيار أو عن طريق الاستخلاف كما سيأتي: لكن مما يجب التنبيه له أن كلامنا هنا لا يشمل الملك الذي ذكره الله لبعض أنبيائه كداود وسليمان وغيرهما عليهما السلام، فقد قال الله تعالى عن داود:﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾. وقال عن سليمان :﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ﴾. وغيرهم من الأنبياء ممن سُمُّو ملوكًا فهؤلاء أنبياء معصومون، ولا شك أن ملكهم على نهج الحق قطعًا، لذلك لا يرد عليه الذم الوارد في الأحاديث السابقة لعصمتهم عليهم السلام.
لهذا كان من اللازم إضافة مسالة التنصيص على المفاهيم الثلاث عند دسترة اي دستور ، وليس في ذلك تناقضا مادام المسمى واحد هو حاكم المغرب، فتكون إمارة المؤمنين سندا شرعيا لحماية الدين ولحمة للمجتمع، والخليفة كالقائم على رعاية الرعية لأنه خليفة الله في أرضه، والملك يعد سندا سياسيا ينبغي تقديره واحترامه، وان هتف البعض بإزالة القدسية عن شخص الملك، فالوصف في حد ذاته غير صحيح؛ فالقدسية مرتبطة بنعوت العالم العلوي دلالة على الصفاء والطهارة، والقدسية اشتقت من مسمى الروح القدس وهي لفظة مترجمة من النص التوراتي “الروح القدس” أي جبريل عليه السلام، فورود الغلط في الاستعمال التداولي للفظة يدعونا إلى عدم الحاجة إلى هذا النقاش في إزالة أو إبقاء وصف القدسية لراعي الأمة، إلا إذا أرادت طائفة من القول بإزالة القدسية عن الملك كي لا يتابع قضائيا الناعت للملك بأوصاف قذحية والتقليل من قدره، ومخاطبته بلا احترام، فالشرع والقانون يحاسب كل ناعت لغيره بأوصاف قذحية، فالهيبة للراعي لابد منها، وهي تربية إسلامية، وما نقوله نابع من مبادئ حسن القول والخلق الحسن، فان كنا لا نرضى برفع الولد صوته على أبيه فكذلك الحال مع الراعي للأمة. فحسن التصرف عملا وقولا واجب شرعي تمليه فروض البيعة، والنصح له واجب شرعي كذلك؛ فهذا الخليفة عمر بن الخطاب كان يردد – كما ورد في الأثر- « رحم الله من أهدى إلي عيوبي».
وفي الجانب القانوني: ينص الفصل التاسع عشر من دستور 1962 على ما يلي: «الملك أمير المؤمنين ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرار ها». فقد اعتبر بعض الباحثين أن هذا الفصل جعل الدستور المغربي يتكون من طبقتين عليا وسفلى، وأنه بمثابة دستور داخل دستور فيما رأى فيه اتجاه آخر دسترة للحق الإلهي. وذهبوا في تحليلهم للفصل 19 إلى القول: «إن أمير المؤمنين لا يستمد صلاحيته من الدستور بل يستمد مهامه من الكتاب والسنة». وان ممارسة السلطات الخفية استنادا إلى قراءة النصوص الشرعية التي تشير إلى ما أناط الله به الخليفة، يعطي للملك مجالا لممارسة لا حدود لها. وبما أن أمير المؤمنين كرئيس للدولة الإسلامية المغربية مارس عبر الحقب والعصور صلاحيات واختصاصات في شتى الميادين والمجالات بحيث لم يكن مقيدا إلا بما ورد في الكتاب والسنة إلا أن الملك أمير المؤمنين في إطار المرحلة الدستورية يظل خاضعا لما هو مقرر في الشريعة الإسلامية بسبب كون الإسلام دين الدولة، كما يلتزم في ذات الوقت بما ورد في الوثيقة الدستورية برمتها.
وقد أكد المشرع أن المغرب ملكية دستورية ديمقراطية، فهي مقيدة بنصوص التعاقد الدستوري، والملكية بذلك مقيدة بالشريعة الإسلامية فاعتبار الملك هو أمير المؤمنين. ومن هذا المنطلق فالملك يفترض فيه أن يتصرف في إطار هذين القيدين، ولا ينبغي له تجاوزهما لتكون ممارسته للسلطة صحيحة، وعليه فالقول بأن الفصل 19 يعطي صلاحيات غير محدودة، وأنه يمثل دستور داخل الدستور المغربي، فيه نوع من المبالغة والتضخيم.
وهكذا يحيل مصطلح “أمير المؤمنين “على المشروعية الدينية حيث يستمد الملك نسبه الشريف من “آل البيت”. ويعتبر خليفة الرسول، وأسمى سلطة في البلاد الإسلامية منوطة بقيادة المسلمين، وإمامة الصلاة بهم، وحماية الأرواح، ومصالح الذميين كما يتمتع بمشروعية تاريخية باعتباره رمزا لوحدة الأمة وضامن دوام الدولة واستمرارها، علاوة على المشروعية المكتسبة من البيعة وما ترمز إليه.

وكتوصية باحث نرى:
– التصريح بالمرجعية الدينية الإسلامية، والتفصيل فيها بذكر الالتزام بتعاليم الفقه المالكي والمعرفة الإيمانية تبعا للاستدلال العقدي الأشعري درءا للوافد من الخارج حفاظا على لحمة المجتمع؛
– الالتزام بمعنى الملكية الديمقراطية؛ والدعوة إلى تحديد سلط الملك وهي دعوة دفينة في محاولة لإفراغ الملكية من محتواها، فان الاجتهاد الشرعي يدعو إلى مبدأ الشورى المؤسس لمفهوم التشارك في أخذ القرار وهو مفهوم إسلامي يرمي إلى أخذ الإجماع، فتتشارك غرفتي البرلمان والمستشارين برئاسة الملك على سن التشريعات المناسبة، وتكون الأغلبية في التصويت هي المشرع الفعلي، والحكم والفيصل؛
– الدعوة إلى ترأس الوزير الأول أو مسمى رئيس الدولة للحكومة وللمجلس الوزاري لا يخالف العمل الشرعي فقد استخلف رسول الله أبا بكر في الصلاة وهو حي، ولم ينافسه في إمامة المسلمين في دينهم ودنياهم؛
– الرقابة والمحاسبة أمر لازم وضروري، والتساوي أمام سلطة القانون، فالعدل كمفهوم مجرد وجب دسترته؛ فعبارة “من أين لك هذا” ؟ تفرض خلق آلية قانونية وقضائية لتحقيقها، لنبد الفساد الذي قهر العباد فدفع بالشعوب الى الثورة على المستبدين؛
– التطور الديمقراطي كمفهوم يعني الفعل والنتيجة الايجابية، ولا يعني الشكل والمظهر؛ فعامة المغاربة لهم موقف من هذا التعدد الكمي للأحزاب الغير المفيد، ولا يعني هذا الدعوة إلى إلغاء التعددية الحزبية لكن لابد من تصحيح الوضع بسن قانون يزكي الإبقاء على الأصلح منها، ومعرفة ذلك تكون عن طريق حصول الحزب على تمثيلية اكبر في غرفتي البرلمان والمستشارين، ما سيحدث تنافسية ايجابية، ما سيترتب عنه من خلق أقطاب وتحالفات كبرى بدل التجزئة والتفرقة.

اترك رد